إن الهوية التي نسعى إلى تفكيكها هي بنية ثابتة في الأعم الأغلب، ينتج عن طبيعة ثباتها خطر حقيقي تجاه الهوية ذاتها، وتجاه غيرها من الهويات. ذلك أن الحالة الصحية والصحيحة لأية هوية أن تكون قيد الإنجاز. ولعل أخطر الهويات عنفاً أكثرها انغلاقا وأكثرها وهماً بالاكتمال والعلو. ولكن من أين لهوية ما أن تستمد مثل هذا الوهم، أو بالأصح ما الذي ينقصها لتصير ما آلت أليه؟
هناك ثلاثة أسس نستطيع أن نبني عليها فهمنا لعمل هذه الهوية:
أولاً الخوف: تخاف الهوية على مكتسباتها ويقينها ويمنعها ضعفها – الذي من المفترض أن يكون محفزاً للتغيير- من القفز إلى المجهول والمغامرة تجاه أي جديد. فالهوية التي لا تستطيع أن تعيش القلق الوجودي هوية مائتة تخاف على موتها وتحافظ عليه. إنها تتمسك “بروح الجد”؛ والتي تعتبر واحدة من الصفات الأخلاقية الدنيئة عند سارتر، حيث تقبل بالقيم المألوفة وتحتمي بها هروباً من قلق الوجود، فتتخلص من الحصر والضيق والقلق الوجودي.
إن مثل هذه الهوية تحارب كل جديد ويعميها خوفها هذا عن رؤية الحياة بتنوعاتها واختلافاتها وانبثاقاتها، فتختبئ خلف سذاجتها، وتتمترس خلف وهم قد تدفع من أجله الغالي والنفيس. والخوف مرتبط هنا بالجهل أشد ارتباط، ويصح به تماماً قول سقراط : الفضيلة علم والرذيلة جهل.
ثانياً السلطة : تمارس السلطة العنف لتحافظ على نفسها، والعنف أصلي في تركيبها بقدر رفضها لتقبل الاختلاف. وهي إذ تقبل الاختلاف صورياً فإنما تفعل ذلك من منطلق القوة التي تمتلكها، ومن وهم التفوق الذي أنتجته لنفسها. فتسمح له بالعمل من منطق المنح والعطاء الذي يتنافى تماماً مع أصلية الاختلاف كنسق أفقي. لكنها لا تلبث مع ذلك أن تقمع كل شاذ يخرج عن دائرة المنح المرسومة له، فتضعه على سرير بروكوست.
إن الاختلاف يعطل عمل السلطة، لأنه يتعارض مع بنيتها العنفية، والتي تترافق مع أصل آخر ينخرها من الداخل هو الخوف؛ فالخوف والعنف وجهان لسلطة واحدة. الخوف من فقدان السلطة لأنها تدرك تماماً عمق الأقصاء الذي مارسته على غيرها، وتتنبه بعد أن تكون قد نسيت وجود الآخر تماما وهمشته، الخطر الذي ينتظرها، فيزداد عنفها بقدر خوفها.
ثالثاً الماضي: يستمد الماضي قوته من اتجاهين مختلفين يلتقيان في هوية عنفية واحدة.
يستمده من ماضٍ لم يمضِ، ومن مستقبل لا نعيشه كاستباق. ذلك أن الماضي من حيث يسكننا دائماً لا نستطيع الإفلات منه، وهو إذ يخلخل بنية الحاضر؛ الذي يعيش المستقبل كاستباق وتنبؤ، يقوم بمفعول إيجابي للتجاوز. وهنا نستشهد بقول الدكتور يوسف سلامة في كتابه “من السلب إلى اليوتوبيا” :
“إن الحضارة التي بنتها أمة ما تشكل نسقاً مغلقاً على ذاته.ولا يعني الاحتفاظ بالهوية وحدها إلا تكرار لهذا النسق بينما التجدد الحق لا يمكن البرهنة على حدوثه إلا من خلال قدرة أمة ما، أو بالأحرى نجاحها في تجاوز آخر حضارة معاصرة بالمضي إلى ما وراءها. وقد يكون الإقرار بمبدأ السلب ومن ثم إغناء الهوية التاريخية بسلب معاصر لها، هو الخطوة الأولى التي تضع الأمة على بداية الطريق المؤدي إلى التجدد والإبداع وليس إلى تكرار القديم، فالتكرار ممل في حين أن للجديد فتنة الشعر وشبابه.”
لكن المفارقة هنا ذات بعدين؛ فالماضي لا يسكننا لكي يدفعنا لتجاوزه عبر مفهوم السلب الذي يؤصل للاختلاف في بنية الهوية عينها. بل ما يحدث، أن هوية ما تسكن الماضي وتسكنه على نحو غير أصيل أي بصورته المشوهة والعفنة. ومن جهة أخرى وحينما تفقد الهوية في حاضرها المعاش كل أمل بالمستقبل. تعود للماضي بشكل نكوصي مرضيٍ يتجلى بالانفصال التام عن الواقع وعن الزمن. إن هوية فاقدة للمستقبل ساكنة بالماضي تستفيض بكل أشكال العنف، والذي يؤسس ويبرر بالمقابل لشكلٍ جديد من العنف المضاد.