المحامي إبراهيم محمد القاسم
لعل من أهم الأسباب التي أدت إلى إندلاع الثورة الشعبية في سورية، هو الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في سورية منذ اعتلاء النظام الحالي لسدة الحكم في ستينيات القرن الماضي سيما بعد استلام حافظ الأسد الحكم في إنقلابه عام 1970 والذي أسماه بالحركة التصحيحية، حيث شهدت فترات حكمه الممتدة لثلاثين عاماً العديد من الجرائم والانتهاكات لحقوق الإنسان سيما مجزرة حماة عام 1982، ومن ثم جاء ابنه بشار الأسد ليكمل مسيرة والده في انتهاكات حقوق الإنسان.
وخلال العقود الماضية قام النظام بتحصين نفسه من خلال الدستور والقوانين التي منعت محاكمة رأس النظام إلا بجريمة الخيانة العظمى كما منعت محاكمة عناصر الأمن أذرع النظام مرتكبي الانتهاكات عن الجرائم التي يرتكبوها بحق المواطنين السوريين، مما يسمح لهم بالإفلات من العقاب.
ولم تكن الانتهاكات التي ارتكبها النظام منذ ثورة آذار عام 2011 شيئاً جديداً عليه، بل أضحت بشكل ممنهج وواسع النطاق وبشكل مفضوح أكثر فقط، لذلك أضحى جميع السوريين يأملون في ملاحقة ومحاسبة هؤلاء المجرمين عن جرائمهم التي ارتقت لجرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب وجرائم إبادة جماعية.
لذلك يعمل جميع ناشطي ومنظمات حقوق الإنسان في سورية والعالم لبدء محاسبة هؤلاء عن جرائمهم، وتبدو حالياً الآلية القضائية المحتملة لهذه المحاسبة، هي الآلية القائمة على استخدام الاختصاص العالمي للمحاكم الوطنية الأوربية، وتفعيل اتفاقية مناهضة التعذيب في هذه الدول في ضوء تدفق مئات الآلاف من اللاجئين السوريين إلى هذه الدول سيما ألمانيا وفرنسا وغيرها من دول أوربا وخاصة ممن هم أصحاب الجنسيات المزدوجة ما بين الجنسية السورية وجنسية أحد دول أوربا، وبرأيي الشخصي تأتي أهمية هذه الآلية دون غيرها لعدة أسباب، وأهمها أن الآليات الأخرى مغلقة الأبواب حالياً أمام محاسبة هؤلاء المجرمين.
فالمحاكم الوطنية السورية غير قادرة على القيام بواجبها في محاسبة هؤلاء المرتكبين، أولاً لا توجد إرادة سياسية لدى النظام القائم في سورية نحو هذا المنحى فليس من المعقول أن يحاكم النظام نفسه، سيما في ظل تحصين نفسه من خلال الدستور والقوانين بما يضمن له الإفلات من العقاب كما ذكرنا أنفاً.
وإنطلاقاً من القاعدة الفقهية “ لا جريمة ولا عقوبة بدون نص “ فلا يمكن ملاحقة أي من هؤلاء المرتكبين وفق القوانين الجزائية السورية، لأنها ببساطة لا تتضمن نصوصاً قانونية تجرم جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية.
ويضاف إلى ذلك قلة خبرة الأجهزة القضائية بهذا النوع من الدعاوى، حيث لم يشهد القضاء السوري عبر التاريخ محاكمات لمثل هذا النوع من الجرائم، وليس حال المحامين بأفضل من القضاة.
وأما الآليات الدولية كالمحاكم الدولية الخاصة “ يوغسلافيا “ على سبيل المثال ، أو الدولية المختلطة “ محكمة لبنان الخاصة باغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري “، فلا يمكن الاعتماد عليها بسبب الموقف الروسي والصيني المتعنت والرافض لأي إجراء قانوني لمحاسبة المجرمين في سورية وذلك من خلال استخدامهم لحق النقض “الفيتو” في مجلس الأمن الدولي، لمنع إصدار أي قرار من خلال مجلس الأمن بإنشاء محكمة دولية خاصة بملاحقة مرتكبي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في سورية.
لم تصادق سورية على نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، لذلك لا يمكننا الركون إلى هذا الخيار الدولي الآخر، ناهيك عن ذلك أن خيار إحالة الملف السوري إلى هذه المحكمة سيواجه بالرفض السوري والصيني أمام مجلس الأمن الدولي من خلال استخدامهما لحق النقض “الفيتو”.
لما سبق بيانه أعلاه أجد نفسي كحال معظم الحقوقيين السوريين والمهتمين بالقضية السورية، داعمين لخيار تفعيل آلية الاختصاص العالمي الشامل أمام المحاكم الوطنية في أوربا، والتي لها باع طويل في هذا النوع من المحاكمات، وخاصة من خلال التركيز على جرائم التعذيب في المعتقلات السورية والتي يمكن لهذه المحاكم ملاحقة مرتكبيها وفق اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة والتي تنطوي تحتها جميع دول أوربا وحتى سورية التي انضمت إليها علم 2004.
وخاصة بعد تواجد مئات الآلاف ومن بينهم ضحايا ومرتكبي انتهاكات سوريين، أضحوا لاجئين في دول أوربا وكانت حصة ألمانيا الأكبر من هؤلاء اللاجئين السوريين الذين عانوا من انتهاكات من كافة أطراف النزاع المسلح في سورية منذ سنوات.
ويبقى التحدي الأكبر أمام تفعيل هذا الاختصاص العالمي هو مدى استعداد وجدية الدول الأوربية في ملاحقة هؤلاء المرتكبين وعدم الانتقائية في محاسبتهم، والتركيز على مرتكبي الانتهاكات المحسوبين على المتطرفين الإسلاميين والابتعاد عن ملاحقة باقي المرتكبين بحجة محاربة الإرهاب، خاصة بعد التدخل الروسي والإيراني والتحالف الدولي في سورية فيما يسمى محاربة الإرهاب.
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج