يعرف الفضاء العام بأنه المساحة التي يحتفظ بها المجتمع لنفسه بعيدا عن مؤسسات الدولة الرسمية لمناقشة شؤونه وتدبر أموره وسبر قدرات أبناءه وخلق الآليات لصقلها. وتحتل مؤسسات المجتمع المدني هذا الفضاء, وتعمل على استثماره, وتخلق الآليات والبرامج لاستثماره بشكل يدعم نمو المجتمع الأم والمجتمعات المحلية الصغيرة. وفي هذا الفضاء يجد الشباب, والناشطون والنساء والأطفال المجال للانخراط في الحياة العامة والشأن العام. ويلعب الإعلام دورا في تطوير بنية هذا الفضاء, ويساهم فيه أيضا, وللمؤسسات الدينية دورا بارزا فيه أيضا. ويشكل هذا الفضاء وتشكيلاته قوة معتبرة في وجه السياسة. يزدهر الفضاء العام في المجتمعات الليبرالية والديمقراطية ويختنق في مجتمعات التسلط والاستبداد.
والفضاء العام هو المساحة التي يختبر المجتمع فيها قدراته على الحوار, والجدل البناء, وتنظيم نفسه في تشكيلات فعالة, واختبار هويته, والحديث عنها, والتمعن في مشاكله ومزاياه, ويصيغ حلولا تجد طريقها للمؤسسات الرسمية التي تستطيع تبنيها, او الاستفادة منها في عملها.
تضع الأنظمة الشمولية سياسيات مدروسة للسيطرة على الفضاء العام, وتسعى لوضعه أولاً تحت سيطرة أجهزتها لرصد ما يدور فيه, ثم تقننه لتضمن حضورها فيه, وبالتالي تأثيرها عليه, ثم تبني القوالب التي تفرض من خلالها هيمنتها المطلقة عليه. ويؤدي ذلك مع الوقت إلى أمرين أساسيين. الأول هو إفراغ هذا الفضاء من معناه من خلال تجريده من أي نقاش جدي وشله عن القيام بدوره المنوط به أصلا, مما يؤدي في النهاية إلى فقدان إيمان الناس بجدواه وجديته وقدرته على استيعابهم, وجدوى تداول الشأن العام, وفائدة الانخراط في تشكيلاته, لما يحمل من مضيعة للوقت ولما ينطوي عليه من أخطار التي تنجم عن المشاركة خارج الأطر التي فرضها النظام الشمولي وهو ما نلاحظه في سورية ما قبل الثورة من قبل الكثير من السورين. الأمر الثاني هو تطويع هذا الفضاء لخدمة فكر النظام وبالتالي تعزيز سيطرته على المجتمع فيصبح الفضاء العام أداة للسيطرة والهيمنة بدل أن يكون المساحة التي يحتفظ بها المجتمع لنفسه لتناول السياسة والعمل العام بعيدا عن التسييس الحزبي والأدلجة الفكرية. ومن المخاطر الكبيرة التي ينطوي عليها هذا النهج, انخراط الوصوليين والسطحيين في العمل العام غير الرسمي سواء كان مدنيا أو سياسيا, وتنامي طبقة ضخمة من المنفعيين, تصبح جزءاً هاما من آلة القمع الفكري والقولبة وغسل الأدمغة والخداع المستمر.
لا بد لمجتمعٍ ما من توفر مقومات معينة ليضمن لنفسه الاستمرار. بعض من هذه المقومات اقتصادي, وبعضها ثقافي, ومنها ما هو داخلي ومنها ما هو خارجي. لكن يجدر بنا أيضا أن ننظر إلى المجتمع على أنه كائن حي, ينمو, يتطور, يتعلم, يمر بتجارب عديدة, وهو في هذه الحالة يحتاج, كما الفرد, إلى مساحات أو فضاءات معينة لا توفرها الأنظمة الشمولية, وهذا في الحقيقة أحد الأسباب الأساسية لانهيار هذه الأنظمة ولتصدع المجتمعات التي تخضع لها, وهو ما رأيناه في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين الشمولي, وروسيا بعد الانهيار المفاجئ للاتحاد السوفياتي وحروبها الأهلية في الشيشان وغيرها, واليمن عبر تاريخه منذ الوحدة وحتى اليوم, وبعض دول أوربا الشرقية بعد انهيار الأنظمة الشيوعية الشمولية التي حكمتها, ونراه اليوم في سوريا, بشكل لا يمكن إنكاره أبدا.
إن توفير وصيانة وتعزيز الفضاء العام هو بمثابة تحصين للمجتمع من الانقسام المستتر المتخفي تحت غطاء الدولة التي تلعب دور الأم والوصي ولا تسمح بالاختلاف او بالحديث عنه, وهو حماية من الخمول والسقوط في هاوية الجمود ثم التحلل. لا شك أن استخدام مفردات هذا الفضاء وأدواته والتي منها الإعلام ومؤسسات المجتمع المدني والنقابات والتجمعات المختلفة, وحتى المؤسسات الدينية, هو ثقافة يبنيها المجتمع لنفسه ولأفراده في ظل توفر الإمكانية لذلك بما في ذلك الحريات والبنى القانونية والمحفزات الثقافية والاجتماعية. كذلك فإن هيمنة الأنظمة الشمولية على الفضاء العام تفرض أدوات ومفردات مشوهة, وفي اللحظة التي تتراجع فيها سيطرة هذه الأنظمة عليه, وهو ما نراه أيضا في سوريا اليوم, حيث يقبل الناس على الفضاء العام وهو أمر حتمي, لكنهم يتجهون لاستخدامه وفق الآليات والمفردات المشوهة ذاتها التي ورثوها عن النظام الشمولي دون إدراك أهمية استبدالها. لا شك أن المجتمع سيخضع هنا لعملية تعلم قاسية ومكلفة وضرورية لتطوره, لكن الأخطار التي تحف بهذا العملية جمة ومعقدة وقد بدأت مفاعليها تظهر جلياً.
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج