Site icon مجلة طلعنا عالحرية

الأمل بما تبقى من العمل

عبد الله شاهين

أبو عبدو مواطن طموح وذو همة. لديه روح ريادية فيما يخص العمل. قرر خوض تجربة صناعية؛ حيث قرر أن يؤسس مصنع شيبس “زعتور”. رقائق من الذرة المقرمشة المغطاة بالزعتر!
لا يكفي أن يكون أبو عبدو طموحاً، بل ولا بد له أن يمتلك مهارات تقنية تجعله ملماً بعمليات التصنيع والتغليف والتخزين والتسويق. خبرات لا بد لها من تجارب عملية في أسواق منظمة. لكن حتى لو امتلك أبو عبدو كل هذه المهارات، فإنه يظل معتمداً على وجود لائحة طويلة من المعطيات التي لا بد من توافرها لقيام العمل.
بداية؛ سوف يحتاج إلى دقيق الذرة، الذي بدوره يتطلب وجود من يزرع الذرة ويحصدها، ووجود من يخزنها ويوزعها، ومن ثم نقلها إلى مصانع ليتم تحضير ذلك المسحوق، ولابد من آليات لتخزين هذا المسحوق وبيعه وتوزيعه. ومثل هذا سوف تحتاج خامة الزعتر، والزيت الذي سوف يستخدمه في تصنيع هذا المنتج، وكذلك 10 مكونات أخرى، ومنها ما يتطلب استيراده من الخارج لعدم وجوده في لائحة التصنيع المحلي.
سوف يحتاج كذلك إلى وجود مصنع لأكياس التغليف، التي لديها هي الأخرى خط إنتاجي طويل ومتعدد المراحل، ومعتمد على عشرات الأشخاص.
وكذلك هو بحاجة إلى معدات صناعية للقيام بهذا العمل في المكان الذي سوف يخصصه في المنطقة الصناعية في مدينته.
بالطبع، لن يقوم أبو عبدو بكل هذه الأعمال وحده، بل يحتاج إلى عمال مهرة قادرين على تشغيل هذه الآليات وصيانتها، وعلى تغذيتها بالعيارات المطلوبة، والتأكد من إتمام المنتج بطريقة مقبولة ومتسقة. ومن ثم، هنالك عمال سوف يقومون بتخزين البضاعة وتوصيلها إلى الموزعين الذين سوف يأخذونها إلى الأسواق.
بالطبع، مصنع أبو عبدو يعمل على الطاقة الكهربائية، والعديد من آلياته تحتاج مصادر طاقة أخرى كالغاز والمازوت. ولابد من توافرها لكي يتمكن من تشغيل المعمل وإنتاج بضاعته. كما يتطلب وجود آلية تقاصّ واضحة يدفع بها تكاليفه ويحدد بها أرباحه.
من المفترض كذلك وجود عملة مالية منظمة وذات قيمة قليلة التأرجح. ونظام مشرفي يشرف على التقاص ويحفظ الأموال، ونظام اقتصادي يكفل الحقوق ويحمي “أبو عبدو” من السرقة والنهب، كما يضمن أن مستحقاته محفوظة.
وأخيراً، سيتضرع أبو عبدو بأن يكون لدى من يستسيغون هذا المنتج ما يكفي لشرائه واستهلاكه!

عاش القطاع الصناعي في سوريا لعقود طويلة رغم غياب عدد من مكونات “الطبخة” التي أوردتها في قصة أبو عبدو. وكان النظام السوري هو السبب الأول والوحيد في غيابها أو عرقلتها. استمر القطاع الصناعي -واقتصاد البلد عموماً- على حالة من التراقص على خيط رفيع بالكاد ينجو من السقوط.
اختار معظم أصحاب النشاطات الاقتصادية في سوريا صفّ النظام عند انطلاق الثورة. بالرغم من النهب المتكرر الذي تعرضوا له من قبل النظام. وتوقع كثيرون منهم أن تجازى مواقفهم “الوطنية” عقب “الانتصار على المؤامرة”، أو على الأقل أن يتركوا في حال سبيلهم.
لكن نظام الأسد اليوم يتوجه إلى “تشليح” ما بقي من القطاعات الاقتصادية من أصحابها ومنحها لأمراء الحرب الذين تكونت لديهم شراهة كبيرة للمال السريع، فكان عليه أن يولمهم ما تبقى من مصانع وشركات. وهذه الخطوة هي إعلان انتهاء الحلم السوري بالريادة الصناعية، والاستفاقة على الواقع المرير. واقع أن أمراء الحرب هؤلاء لا دراية لهم ولا اهتمام في المجالات التي استولوا عليها، وأنهم وإن أرادوا تشغيل هذه المنشآت، فلن يجدوا لا المواد الخام ولا مصادر الطاقة ولا حتى الأيدي العاملة. فالجهد الجبار الذي كان يقوم به أبو عبدو في السابق لن يتكرر، حتى وإن تكرر فلا يمكن أن يعيد “شيبس زعتور” إلى السوق ويضمن استمرارية هذا المنتج. وإن المصير الأعلى احتمالاً هو قيامهم (أمراء الحرب والأعمال) بالفعل الذي احترفوه خلال السنوات الماضية؛ وهو تشليح هذه المباني من المعدات والآليات وحتى الأسلاك الكهربائية وبيعها “بالكيلو” مقابل أبخس الأثمان. فلا الأسد سوف يستطيع إسكات جوعهم، ولا الاقتصاد استطاع تحصيل بعض من الاستقرار والاستمرارية على أيدي المتنفذين الجدد.
إن أكبر الخاسرين سوف يكون الشعب السوري في المحصلة، والذي تتضاءل فرص العمل وأدوات الإنتاج المتاحة أمامه يوماً بعد يوم، وسوف يظل ينشد الهجرة سبيلاً للخلاص، فتنزف البلد ما تبقى من الأيدي الماهرة الصامدة، وسوف تعاني الأسواق السورية في مناطق النظام المزيد من الشحّ والنقص في البضائع التي سوف تختفي من الأسواق، وللأسف فإن خيبة الأمل ستكون من نصيب المتفائلين بفتح المطارات والحدود، فهذه الإجراءات لن ينتج عنها سوى انهيار متزايد للعملة التي لم تعد مدعومة بأية صادرات او بضائع، بل سيكون هذا الفتح مسرباً جديداً لخروج العملة الصعبة، اما توفر البضائع فلن يتحسن والقيمة الشرائية للعملة تتراجع وقنوات التهريب محمية من قبل الحكومة، وسيستفيد أمراء حرب آخرون من خطوط التهريب التي سوف تستمر زيادة الطلب على بضائعها، إلى أن يتمكن الأسد مجدداً من التصدي لنفوذ أمراء الحرب هؤلاء وتلبيس الطربوش للمجرم القادم مقابل بقائه في السلطة أسبوعاً آخر. وما ستخسره سوريا في أسابيع سوف يستغرق تعويضه عشرات من السنين الشاقة، وأما أبو عبدو فليس له اليوم إلا “الأمل بما تبقى من العمل”!

Exit mobile version