تندرج علاقة الأكثريّة بالأقليّات -كعلاقة هجينة بين حقبتين- في سيرورة الثورة السوريّة من نواحٍ ثلاث: الأولى هي “حماية الأكثريّة” من السلوك المُدمِّر للأكثريّة والأقليّات معاً الذي يمارسه النظام وحلفاؤه الروس والإيرانيون. والثانية هي “حماية الأقليّات” من “الخطر المحتمل” الذي تُمثِّله الأكثريّة والمستند إلى ممارسة وأطروحات مجموعات إرهابيّة تدّعي تمثيّل الأكثريّة. والثالثة هي خوف الأكثريّة من سلوك هذه الأقليّات على حاضر ومستقبل سوريّة في ظل الفوضى والعولمة والتدخل كرافعين من شأن الأقليّات على حساب الوحدة والأكثريّة.
فخلال خمس سنوات تحولنا -نحن السوريّون- من شعب واحد يريد الحريّة والكرامة والمواطنة إلى أكثريّة وأقليّات، إلى طوائف ومذاهب وقوميات وإثنيات وفسيفساء وموزاييك وتعدّد وتنوّع وتشظّي وتذرّر…الخ بدون وحدة سوريّة تجمعنا! لقد ضُربت وحدة الشعب السوريّ وإرادته في آنٍ، وهذا ينقلنا من “المسألة الشرقيّة” القديمة إلى “المسألة السوريّة” بإيهاب جديد؛ أي من “البلقنة” إلى “السّورَنة”، من تقاسم تركة “الرجل المريض” إلى تقاسم تركة “الرجل المجنون”. “البلقنة” أنتجت “حماية الأقليّات” عندنا و”نظام الامتيازات” عند الدول الغربيّة للتدخل الغربيّ في شؤون الدولة العثمانيّة. و”السّورَنة” تؤكد هذه العلاقة مع تعميمها وتعميقها بحيث أنَّ الأفراد والجماعات “الوطنيّة” تحوّلت إلى شراذم ونتف تتبناها دول كثيرة متنافسة وتتلاعب بها مانعة اندماجها الوطنيّ المجتمعيّ والسياسيّ في كيان قابل للحياة، مع بروز دعوات الانفصال أو الحكم الذاتيّ أو المحاصصة التمثيليّة أو مناطق النفوذ.
وتشهد هذه العلاقة على واقعة التداخل بين طرفيّ العلاقة: تداخل الحداثيّ بما قبل الحداثيّ، القوميّ بالدينيّ والمذهبيّ بالقوميّ. فالقوم الكرديّ يختلف عن القوم العربيّ ويتفقان بالدين الإسلاميّ والطائفة السنيّة. أما المسيحيّون فيختلفون عن المسلمين دينياً ويتفقون بكونهما عرباً. وقس على ذلك العلويّين والدروز والشيعة والشركس والأرمن والتركمان والسريان والآشوريين… والطامّة الكبرى أنهم جميعاً سوريّون. ويُبرِزُ منطق الحالة وجهاً من وجوه التداخل على حساب وجه آخر متداخل معه. فمرة يبرز وجه عربيّ قوميّ أو كرديّ قوميّ وأخرى إسلاميّ وثالثة مذهبيّ ورابعة دينيّ. ولدينا التداخل فيما بين التنظيمات الإرهابيّة وبين القوم الأكثريّ العربيّ السنيّ، والتداخل بين النظام الإرهابيّ وبين المكوِّن الأقلويّ المذهبيّ الإسلاميّ العلويّ-الشيعيّ العربيّ، والتداخل بين تنظيم “البي واي دي” وبين المكوِّن الأقلويّ الكرديّ الإسلاميّ السنيّ.
وقد عاشت الأكثريّة فيما بينها أساساً وبينها وبين الأقليّات بالدرجة الثانيّة وفيما بين الأقليّات بعضها البعض بالدرجة الثالثة حالة “التساكن الوطنيّ” الهجينة، ولم يستطع النظام أو لم يرغب بالأحرى في “اندماجها الوطنيّ”. ورغم بيروقراطيّة النظام القائم ومركزيّته المفرطة بقيت قضايا الأحوال الشخصيّة والميراث والوقف والطقوس والشعائر غير مركزيّة، وظلَّ لكلٍّ قانونه وعاداته ومذهبيّته وشعائره وطقوسه.
وتتسم العلاقة القائمة بالفعل بين الأكثريّة وبين الأقليّات بأنها علاقة رعويّة؛ فيها الأكثريّة Majority راشدة، بينما الأقليّة Minority قاصرة. وهذا يعني فيما يعنيه أنَّ لا “حقوق” للأقليّات تكون “واجبات” للأكثريّة. فالأكثريّة الرعويّة تمارس سلطة “راشدة” بينما الأقليّة الرعويّة تمارس مقاومة “قاصرة” إزاء ممارسة السلطة الأكثرويّة! والشفقة، كأخلاق للعبيد، هي ما يُغلِّف ممارسة الأكثريّة واستجابة الأقليّات لها.
وفي ظل الانفصال الواقع بين ولاية النظام على المجتمع، وولاية غيره مستقبلياً، وبين كينونة المجتمع السوريّ، تَبرزُ أسئلة تُشكِّك في جدوى مقولات الحداثة كحلً لإشكاليّة العلاقة. فهل تكفي الديمقراطيّة بدون طائفيّة لاندماج الأكثريّة بالأقليّات وطنياً؟! وهل تكفي العَلمانيّة بدون الديمقراطيّة لاندماجهم؟! وهل تكفي المركزيّة القانونيّة للأحوال الشخصيّة والوقف والميراث للاندماج؟! أسئلة إشكاليّة تبقى أجوبتها قادمة من كينونة المجتمع السوريّ لا من الولاية على هذه الكينونة؛ فكما تكونوا يولّ عليكم.
إنَّ هذه الحالة الهجينة والمتأتيّة من ما قبل الحداثة ومن الحداثة في ظلِّ العولمة والفوضى تفرض نفسها ضمن إشكاليات العلاقة ومصيرها. وفيها وجود للمواطنة والرعيّة في آنٍ، وللنظام السلطانيّ والنظام البيروقراطيّ معاً. فهي تعني عدم إنجاز مستحقات الحداثة وتجاوز خلفيات ما قبل الحداثة والدخول في الفوضى والعولمة في آن.
فنجد النظام يُمارس “العَلمانيّة” و”الديمقراطيّة” الشكليّتان اللتان تضفيان شرعية مزيفة على بقائه في السلطة والمحسومة سلفاً لصالحه بالتلاعب والتزوير والترهيب والترغيب…الخ. ويوظِّف “حماية الأقليات” بما يتناسب مع بقائه ككذبة كبيرة يعيشها وأتباعه بمعيّة المجتمع الدوليّ.
بينما الجهاديون ينظرون إلى مفرزات الحداثة بوصفها صنماً يجب تحطيمه في كل مكان وإقامة دولة الخلافة. ويمثلون خطراً كبيراً في أطروحاتهم وممارستهم ضد الأقليّات أساساً وضد الأكثريّة بشكلٍ غير مباشر.
أمّأ الإسلاميون فيفضلون الديمقراطية لأنها وسيلتهم للوصول إلى الحكم عن طريق صناديق الاقتراع؛ فالانتخابات تعتمد على عدد الناخبين الذين يحتضنون الإسلاميين. فالنتيجة شبه محسومة لكثرة عدد أنصارهم. ولكنهم يرفضون العلمانية ويلتفون عليها بمقولات “الدولة المدنية” و”الديمقراطيّة بدون طوائف”… لأنها تفصلهم عن جمهورهم إذا هم تبنوا العَلمانية. وينظرون إلى الأقليّات كمواطنين من الدرجة الثانية ولا ينظرون إليهم بوصفهم أنداداً، فالأقليّات قاصرة وليست راشدة بنظرهم.
ولكن الأقليّات تميل للعَلمانية لأنها تعطيهم حقوق مواطنة متساوية ونديّة ولكنهم يرتابون بالديمقراطية لأنهم يعتقدون أنهم لن يتحولوا إلى أكثرية في يوم من الأيام. ولذلك نراهم يضعون شروطاً على الديمقراطية لكي يحافظوا على وجودهم الأقلويّ.
وأخيراً، يبقى “الاندماج الوطنيّ” مصلحة سوريّة، بينما “حماية” الأقليّات” وتدميّر الأكثريّة مصلحة دوليّة إقليميّة محليّة. ولهذا فإنَّ إحدى المهمات الملقاة على عاتق نُخب “الثورة السوريّة” إيجاد تصوّر ضروري وممكن وواجب لكينونة العلاقة بين الأكثريّة والأقليّات يتجاوز المأزق. فمرةً غيّر “كوبرنيك” نظرتنا للكون والإنسان بمجرد تغيّير منظور الرؤية. فالمجتمع السوريّ ينقصه التواصل والتعامل والاجتماع ذهاباً وإياباً فيما بين أفراده وأكثريّته وأقليّاته وينقصه فتح جميع الطرق أمام فاعلياته بكلِّ أشكالها؛ لأنَّ البشر تنتج وجودها الاجتماعيّ أولاً ومن ثم تحوِّله إلى قوانين ومؤسسات وأشكالٍ سياسيّة ثانياً.
شوكت غرز الدين، كاتب سوري، ماجستير في فلسفة العلوم، الايبستمولوجيا.