برز مفهوم المجتمع المدني وظواهره المختلفة في سوريا كواحدة من أكثر التعابير والمصطلحات انتشاراً عقب انطلاقة الانتفاضة السورية في آذار من العام 2011، وقد ارتبط ظهوره في تجسيده العام والخاص -حتى ما قبل الثورة- كأحد التحولات العميقة التي شهدتها سوريا، ليس منذ انطلاقة ثورتها فحسب، ولكن منذ فجر انطلاقة الربيع العربي في تونس مروراً بالثورات الأخرى في مصر واليمن وليبيا وصولاً إلى سوريا، التي سبق تكوين المفهوم بشكله الحالي انتشار مجموعة من الظواهر التي تجسّدت في الأشهر الأولى للثورة وكان أوضحها وأهمها (التنسيقيات) الثورية التي ملأت البلاد وانتشرت مثل النار في الهشيم حتى بلغ عددها الآلاف مع نهايات العام 2011 وبدايات 2012.
لا يمكن تحديد تاريخ حقيقي لمراحل تطّور (التنسيقيات المحلية) وتحولها إلى أشكال مختلفة عمّا كانت عليه منذ نشأتها، إلى أن بدأت تأخذ شكل المبادرات المجتمعية التي تتسم بالتنظيم وتحديد الهدف أو الاختصاص؛ سواء على مستوى طبيعة العمل أو حتى على مستوى المنطقة الجغرافية، حتى بتنا نرى تنسيقيات تتحول إلى العمل الإغاثي بشكل كامل أو الطبّي أو الحقوقي أو الإعلامي، وهذه الأخيرة كانت الصفة الأولى الجامعة لجميع التنسيقات في بداياتها وانطلاقاتها الأولى.
لا نفشي سراً ولا ننتقص من قيمة العمل الفريد الذي كانت تقوم به (التنسيقيات) إذا ما قلنا إن النسبة الساحقة منها وخاصة عند التأسيس كانت شبيهة بما يسمّى عادة “التنظيمات الإجتماعية العضوية” والتي يمكن أن ينتمي إليها الفرد بحكم كونه من نفس العائلة أو الطائفة أو القبيلة أو ما شابه، وهو بطبيعة الحال لا يشكّل انتقاصاً من القيمة بقدر ما يفسر الطبيعة الأمنية الشرسة للنظام السوري وطرائقه الوحشية في التعامل مع الحراك الثوري منذ بدايته، وخاصة مع الصف الأول والثاني من النشطاء السلميين الذي دفعوا الثمن الأكبر في البدايات ومازال الكثير منهم رهن الاعتقال التعسفي، وقد تمّ إخفاؤهم قسريّاً في أقبية الأجهزة الأمنية والسجون.
مع تطور الأحداث الميدانية والعسكرية والسياسية في سوريا، تطورت التجمعات المتمثلة بالتنسيقيات وبدأت تتخذ منحى المبادرات المنظمة والتي كان أوضح تعبير لها (منظمات المجتمع المدني)، وتحديداً عندما بدأ الحديث عن أزمة لاجئين وأزمة مواد إغاثية ومساعدات طبّية ودورات تدريبية، ويبدو أن العام 2012 كان العام الأكثر تأثيراً خاصة أنّه شهد بداية اضمحلال النشاط السلمي في العموم، وازدياد شدّة المعارك والعمليات العسكرية ما بين القوات النظامية والمعارضة المسلّحة، مما حدا -على سبيل المثال- باللجنة الدولية للصليب الأحمر على اعتبار الوضع في سوريا (نزاع مسلّح داخلي – غير دولي) في شهر تموز من العام 2012.
القبول الواسع من المواطنين السوريين لدور منظمات المجتمع المدني في سوريا وتحديداً في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام أدى إلى ظهور مئات المنظمات التي بدأت العمل في عشرات المجالات، ليس أولها التعليم والإغاثة وليس آخرها العمل في قضايا العدالة الانتقالية والتوثيق وحقوق الإنسان ووضع رؤى مستقبلية في سوريا، وبدا واضحاً الاعتراف المجتمعي بدور المنظمات وأهمية وجودها، في ظل غياب شبه تام “لمؤسسات الدولة” والاحتياجات التي طفت على السطح مع هذا الغياب، ولكن برز تحدّ جديد تجسّد في صعوبة تحديد أدوار واضحة للمجتمع المدني ككل؛ أين يجب أن يبدأ وأين يجب أن ينتهي، وبدا تحديد وتأطير هذه الأدوار ضرباً من الخيال مع اتساع مجال المنظمات كاتساع المفهوم والظاهرة نفسها، والتي تحمل دلالات عديدة تختلف باختلاف زاوية النظر والبحث، لكنّ بقي المشترك الأول المتفق عليه هو هذا الفضاء الجديد والمساحة الحرّة التي جلبتها هذا الظاهرة إلى المجتمع السوري المتعطش إلى التعبير عن نفسه واحتياجاته.
بموازاة العمل على احتياجات الناس، لعب المجتمع المدني السوري -ومن ضمنه المنظمات- دوراً مهماً وريادياً في جميع الأحداث السياسية التي رافقت الحرب الدائرة في البلاد، وخاصة في خضم رحلة البحث عن حلّ سياسي بعد الإعلانات المتكررة للدول المؤثرة في النزاع ومراكز صنع القرار أن لا حلَّ عسكرياً للأزمة وأنّ الحلّ الوحيد هو من خلال إيجاد حلّ سياسي، وقد تمّ التركيز بشكل ملفت من قبل الكثير من المنظمات على العمليات التفاوضية والمؤتمرات الدولية حول سوريا، سواء التي أقيمت في جنيف على مدار السنوات الأخيرة، أو في فينّا أو غيرها من العواصم الدولية والعربية، ولعبت المنظمات الحقوقية -على سبيل المثال لا الحصر- دوراً مهماً في عمليات الضغط والمناصرة وتحديد المنتهك الرئيسي وتزويد المفاوضين والفرقاء الدوليين بصورة حقيقية للواقع من أجل وقف المجازر اليومية بحق المدنيين، تحديداً من قبل قوات النظام، وفكّ الحصار عن المدن والبلدات المختلفة، وإطلاق سراح عشرات الآلاف من المعتقلين والمختفين قسرياً، كل ذلك دون مصادرة رأي أو موقف أو توجّه لأي من منظمات أو فعاليات المجتمع المدني الأخرى، أو الظهور بمظهر “الأب الوصي” في هذا الفضاء الواسع.
أعادت مفاوضات جنيف 3 نقاش أدوار المجتمع المدني ومنظماته إلى الواجهة من جديد، ملقية بظلالها على الخطاب العام لتلك الفعاليات والأجسام وطريقة تعاطيها مع الواقع الجديد، وخاصة بعد بروز أدوار جديدة لممولي هذه المنظمات أو الشخصيات أو التيارات السياسية المؤثّرة فيها، وبدأت النقاشات بين المنظمات فيما بينها -وحتى في داخل بعض المنظمات نفسها- حول أحقية المشاركة في المفاوضات من عدمها وأحقية الذهاب إلى جنيف من عدمه، وصولاً إلى كيفية التمثيل وطريقته وأسبابه ونتائجه، وبدا واضحاً حجم الضغط الذي مورس على المجتمع المدني السوري من أجل اتخاذ مواقف معينة وصبغ نفسه بلون معين، وصلت في بعض الأحيان إلى حدّ التهديد بالتشهير في حال عدّم اتخاذ موقف معين أو رأي معين لمجموعة من الأفراد أو المنظمات!!
أياً كانت الأسباب المشروعة و”الأهداف السامية” وراء العمل أو النشاطات التي تقوم بها فعاليات المجتمع المدني أومنظماته في هذا الفضاء الواسع، فهو لا يخولها على الإطلاق انتهاك الأدوار المنوطة بها وتحولها إلى أداة قمع إضافية من أجل إرضاء طرف ما أو أطراف أو أشخاص معينين في خضم التحولات السياسية، كما أنه لا يجيز لها قولبة الأفكار أو تأطيرها أو تحجيم دور المجتمع المدني نفسه أو الانفراد بتمثيله، لأنّ ذلك لن يحلّ المشكلة إطلاقاً، بل سوف يعقدها أكثر. أضف إلى ذلك أنّها لن تحدث أي فارق حقيقي الآن، وإن أحدثت أي تطور فسوف يكون قصير الأمد وذا نتائج عكسية في المستقبل، ليس أفضلها تحول المنظمات إلى بؤر لخلق العقبات أمام تطور المجتمعات بدل إحداث تغيرات نوعية في بنيته والانتقال إلى دولة الحرية والعدالة والمواطنة.
المتحدث الإعلامي باسم مركز توثيق الانتهاكات في سوريا