تدور حرب باردة بين السعودية وتركيا على قيادة العالم الاسلامي حيث ترى كل منهما نفسها جديرة بلعب هذا الدور لاعتبارات تتعلق بالتاريخ والجغرافيا من جهة ولما تمثله في العلاقات الاقليمية والدولية من جهة ثانية. فالسعودية ترى قيادتها للعالم الاسلامي، تقصد السنة باعتبار الشيعة بنظرها خرجوا عن الاسلام، تحصيل حاصل في ضوء التاريخ، مهد الدعوة الاسلامية، ومكانتها لدى المسلمين لاحتضانها لقبلتهم وللأرض التي يقصدونها لأداء فريضة الحج ويزورون قبر نبيهم في المدينة المنورة، والتي تشكل مع مكة المكرمة الحرمين الشريفين، وقد اعتمدت لتعزيز ذلك تسمية الملك بخادم الحرمين الشريفين، كان السلاطين العثمانيون اول من ابتدع التسمية للالتفاف على كونهم غير قرشيين بعد ان كرّس الفقهاء شرط قرشية الامام، وترى في سياستها ورؤى مؤسساتها الدينية معيارا وحكما اسلاميا قاطعا لا يدانى ولا يرد. وهذا جعلها حساسة لقيام أي كيان سياسي او دولة على خلفية اسلامية وترى فيها منافسا محتملا لقيادتها يجب احتواؤه او التشكيك بتمثيله لتوجه اسلامي صحيح.
تركيا تحت حكم حزب العدالة والتنمية من جهتها تعتبر نفسها الاجدر في قيادة العالم الاسلامي لاعتبارات تتعلق بالتاريخ الاسلامي القريب، السلطنة العثمانية، ولنجاحها في الحكم وتحقيق تقدم اقتصادي مشهود لفت انظار مسلمين كثر يعانون من عجز في تأمين لقمة عيش كريمة، وحلموا بتكرار تجربتها في بلادهم.
لقد تجلت الحرب الباردة بينهما في التنافس على الساحات الاسلامية ودعم كل منهما لجهات اسلامية تتسق مواقفها وافكارها معه مع توجهاته، ، فالسعودية تبنت الجماعات السلفية واستخدمتها في نشر المذهب الوهابي، وحاربت الاخوان المسلمين الى درجة ارتياحها لهزيمة حزب الاصلاح اليمني الإخواني في مواجهة الحوثيين خصومها السياسيين والمذهبيين، وحاربت الحركات الصوفية، واعتمدت سياسة مقاومة التغيير في العالم الاسلامي ومحاربة كل فكر ينطوي على دعوة الى التغيير والتطوير، وخاصة الفكر الاسلامي، بحيث لا تثار اسئلة حول تمثيلية النظام السعودي للإسلام او تشكيك بإسلامية توجهاته وطرح بدائل جذابة له.
تركيا التي امتلكت جاذبية واشعاعا سياسيا حولها الى قدوة ومثال تجسد بتشكيل احزاب اسلامية تحمل ذات الاسم: العدالة والتنمية في عدد من الدولة الاسلامية تصدت للتحرك السعودي وتبنت حركة الاخوان المسلمين ورعتهم وقدمت لهم الدعم والمأوى وتحركت بقوة لإنجاح تجربة حكم الاخوان في مصر وتونس وخاضت صراعا سياسيا ودبلوماسيا واعلاميا مع الانقلاب المصري على حكم الاخوان ورعاته السعوديين والاماراتيين.
وكان الاسوأ في هذا الصراع ما حصل في الثورة السورية حيث سعى كل طرف منهما لتعزيز دور حلفائه ومنحهم مكانة مميزة في قيادة الثورة بجناحيها العسكري والسياسي فكان التفاضل والانقسام والتمزق في الصفوف انعكس سلبا على نتاج الثورة ووحدتها وتماسكها وعلى صورتها بين جمهورها وحاضنتها الاجتماعية حيث نظر الى قادتها كبيادق في يد الخارج وخدمة مخططاته.
غير ان كلا التجربتين تفتقران الى شرعية تمثيل المسلمين وقيادتهم لاعتبارات تتعلق بطبيعة البنية السياسية للنظام ولانعكاساتها على الواقع الوطني والاسلامي. فالدولة السعودية بمرتكزاتها الثلاث: الديني والسياسي والثقافي لا تشكل حالة ناجحة او جاذبة فالمرتكز الديني المتمثل بالمذهب الوهابي لا يمتلك اسسا فقهية او منهجية للتعاطي مع المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يواجهها العالم الاسلامي، ومرتكزها السياسي: النظام الملكي المطلق ليس بالنظام القابل للحياة في العصر الحديث وما شهده من تطور على صعيد الحقوق والواجبات الوطنية والانسانية. واما مرتكزها الثالث: الثقافة البدوية فهو النقطة الاضعف في البناء وتمسك النظام بها كونها من طينة نظام سلطاني فردي مغلق. وهذا بالإضافة الى التمييز بين المسلمين على خلفية مذهبية حيث يعيش الشيعة والاسماعيليون كمواطنين من درجة دنيا، كما تضطهد المرأة وتنتهك ابسط حقوقها. ما جعل الدولة السعودية كيانا هشا تعتمد في معظم دخلها الوطني على هبة الطبيعة: النفط وفي امنها الوطني على حماية خارجية، امريكية تحديدا، وقواتها المسلحة رغم مليارات الدولارات لم تنجح في صد هجوم الحوثيين على ارضها في منطقة جيزان عام 2009. واعتمادها دبلوماسية الشيكات لكسب ود قوى سياسية وتحاشي قيام قوى ارهابية بأعمال ضد مصالحها( كانت تدفع لابي نضال ولكارلوس اتاوات شهرية). ما يعني عدم نجاحها في ادارة مملكتها فكيف بإدارة دول ومجتمعات العالم الاسلامي وما تحتويه من مشكلات ومصاعب اقتصادية واجتماعية وصراعات عرقية واثنية ومذهبية.
النظام التركي مع انه يمتلك ميزات كثيرة يتقدم فيها على النظام السعودي كثيرا الا انه يعاني من نقاط ضعف بنيوية من نوع آخر فالاستقرار الذي تعرفه تركيا ليس من انتاجه وتحقيقه التقدم والازدهار للشعب التركي، وترويجه لدوره الراهن باعتباره عثمانية جديدة، لا يغطي نقاط ضعف بنيوية قاتلة في كيانه، فالتعايش الذي اقامه بين هويته الاسلامية والأساس العلماني للدولة التركية لم يتحول الى عامل فعال في تجسير الهوة بين المواطنين المنقسمين بين علمانيين وإسلاميين، بين سنة وعلويين، بين اتراك وجماعات قومية أخرى، بين أقلية “متعصرنة” وأكثرية متمسكة بتقاليدها، ما جعل التماسك الاجتماعي ضعيفا والاندماج الوطني هشا. فالعلاقة بين ابناء الغالبية المسلمة (سنة – علويون) ليست جيدة، وقد شهدت توترات ومواجهات عنيفة انعكست سلباً على الاستقرار الداخلي، والتطور الاقتصادي- الاجتماعي قسّم البلاد إلى نصفين غير متكافئين. نصف غربي متقدم، حيث تنتشر الصناعات ومراكز التجارة والإعلام الرئيسية، ونسبة تكاثر سكاني ضعيفة، ومستويات المعيشة تقارب المقاييس الأوروبية، مقابل نصف شرقي يضم المناطق الواقعة شرق العاصمة أنقرة، حيث الزراعة تقوم على علاقات متخلفة ونظام إقطاعي عشائري طاغ، وتدني في المستوى المعيشي والتعليمي مع نسبة تكاثر سكاني عالية. وقد زادت الهوة النفسية بين الطرفين اتساعاً نتيجة هجرة أعداد كبيرة من المناطق الشرقية إلى المناطق الغربية وإقامتها في أحياء فقيرة حول المدن واكتشافها عمق الفجوة الفاصلة بين الطرفين معيشياً وسلوكياً. هذا بالإضافة الى تناقض خيارات النظام بين الانتماء التاريخي والخيار السياسي، فسعيه، لاعتبار تاريخي وجغرافي، الى لعب دور مركزي في العالم الإسلامي، وتطلعه، لاعتبار سياسي، الى الاندماج في الغرب عبر السعي الى الانضمام الى الاتحاد الاوروبي، ناهيك عن عضوية تركيا في حلف الناتو قد أضعف موقفه امام الشرق والغرب في آن واحد، وحّد من قدرته على تسويق نموذجه، خاصة في العالم الاسلامي، فقد نُظر الى توجهه الى العالم الاسلامي كخيار اضطراري بعد ان رفضت دول الاتحاد الاوروبي دخوله في الاتحاد، وان تمسكه بعلمانية الدولة غير مقبول، ورأت دول اوروبية في قراراته ارتدادا عن العلمنة والانفتاح.
تستدعي اللحظة السياسية بتعقيداتها ومخاطرها سياسة أخرى اساسها التخلي عن اوهام القيادة، فليس هناك تجربة تصلح لكل الشعوب الاسلامية ومجتمعاتها المعقدة والضعيفة والمفككة، والانحياز لخيار التعاون والتنسيق بينها بدل ان تهدر طاقاتها في صراع عبثي على قضية فارغة، وتعزيز المشتركات وتقديم يد العون للدول الاسلامية ومساعدتها للتخلص من مشكلاتها ومتاعبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فالتعاون والتكامل وتمتين المشتركات خدمة لدولها وللعالم اجمع.
كاتب وناشط سياسي سوري