تشبه سوريا اليوم، وإلى حد بعيد، تلك السياسة الدولية الممارسة تجاهها، فكلتاهما محكومة بعدم التعيين، وعدم الثبات، وكلتاهما تقعان تحت الرهانات الصعبة وإعادة التشكُّل وإمكانية الفشل، وكلتاهما محكومة بعدد كبير من العوامل والعناصر والدول غير المتجانسة التي ستساهم في تحديدهما، وبالتالي رسم المستقبل.
لا شك أن تزامن الهدنة مع المفاوضات والتوقف الجزئي للقصف الهمجي الروسي، كان خيراً للشعب السوري، ووضعَ النزاع على سكة المسار السياسي، وساعد السوريين على استعادة روح ثورتهم السلمية، إلا أن العقبة الأهم التي مازالت تنتصب أمام أي تقدم جدّي في المسار السياسي هي بشار الأسد نفسه، على اعتباره مازال ممسكاً بزمام السلطة “النظامية” في سوريا، وعلى اعتبار الصراع الذي بدأه مع الشعب هو صراع وجودي من الدرجة الأولى، لا مكان فيه للتنازلات الحقيقية، وما المفاوضات بالنسبة له سوى مراوغة ولعب أوراق داخلية وخارجية لكسب المعركة.
المشكلة أن وجود الأسد يُفقد الوفد الحكومي المفاوض أي مصداقية وأي تأثير، لأن ما يعرفه كل السوريين ببساطة، أن هؤلاء ليسوا إلا موظفين غير قادرين على اتخاذ أي قرار مصيري تجاه بلدهم، وحتى لو امتلكوا النية أو الإرادة للتفاوض الجدي، فإنهم لا يملكون الصلاحيات لذلك، بالإضافة إلى أنهم هم أنفسهم مراقبون من ضباط أمن مشاركين في الوفد المفاوض مثلما يعرف الجميع. والمعروف أيضاً، أنه مثلما لا فوارق في سوريا “النظامية” بين النظام والدولة، لا فوارق أيضاً بين النظام ورئيسه، وأنه كل من هو دون الرئيس يمكن التخلي عنه أو استبداله أو قتله أو تغييره دون أن يمس النظام العام أي خلل جوهري، مع أن العكس ليس صحيحاً على الإطلاق.
والمشكلة أيضاً، أن نهاية الأسد ليست نهاية المشكلات، بل بدايتها على نحو جديد، ووجود الأسد لا يفعل سوى تعطيل وتأجيل وتأخير تلك البدايات الصعبة التي لا مفرَّ من مواجهتها في إعادة تشكيل الكيان السوري. وفي الحقيقة لو كان من الممكن الاعتماد على ما نستبعده، وهو قبول الأسد بعملية “الخروج بكرامة”، لكان من الممكن أن يسهّل ذلك عملية التفاوض المعقدة بين السوريين، حيث إن مشكلات من نوع التحاصص السياسي، وإعادة هيكلة الجيش والأمن والقضاء، ونوع الحكم، وصيغة الدستور، ولغة البلد واسمها وحدودها وعلمها ووحدتها، ومسائل مشاركة المرأة، والعدالة الانتقالية، والمحاكمات وملف المعتقلين والمخطوفين والمغيِّبين، وجبر الضرر والتعويض وإعادة المهجرين والنازحين.. الخ، كل تلك المشكلات وغيرها، ليست قضايا سهلة للتفاوض، ولا قضايا يتفق عليها السوريون، ولاسيما في ظل صعود ظاهرة المظلوميات التي قد تؤدي بسوريا إلى التمزق الأهلي والجغرافي والإثني والمذهبي، وتمنع أي تفكير متفائل بسوريا ديمقراطية أو آمنة.
والمظلوميات هي تحويل القضايا العادلة والمحقة إلى مركوب سياسي يتجه حتماً نحو العنصرية والتطرف تجاه الآخرين، أفراداً ومكوّنات، فما قام به حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في شمال سوريا، ليس سوى استغلال للمظلومية الكردية، وتكرار لاستغلالات كثيرة حصلت وتحصل في سوريا والمنطقة، لم ولن تؤدي سوى لإعادة انتاج الاستبداد بطرق جديدة، ونذكِّر بأن مجاهدي الإسلام السنّي والشيعي، ومجاهدو الأقليات، وحتى بعض “المجاهدات” النسويات، جميعهم ينطلقون من قضايا عادلة، لكن التعامل مع تلك القضايا كمظلوميات لم ولن يؤدي سوى للركوب عليها بغية تحصيل الامتيازات وليس إنتاج المساواة ولا الديمقراطية، لا داخل أي من المكونات السابقة، ولا تجاه الآخرين خارجها. ونذكّر أيضاً كيف حوّل صاحب “السلام العادل والشامل” سوريا إلى مزرعة وسجن في عهده، أو كيف حوّل الصهاينة “إسرائيل”، عبر مظلومية اليهود في أوروبا، إلى أكبر معسكر نازي ضدّ الفلسطينيين.
لا يكرر التاريخ إلا من لم يتعلم من تجاربه، ولذلك نعتقد أن المقدمات الأفضل للتفاوض، هي التعامل السياسي مع جميع السوريين كمظلومين وأصحاب حقّ بطريقة أو بأخرى، وترك التفاوت في الظلم إلى القانون لا للسياسة، ذلك ما يفتح أفق التفاوض نحو أهداف الثورة الأولى، في الديمقراطية والحرية والكرامة لكل السوريين، ويبعدنا عن سوريا التعيسة كـ “عظمة بين أسنان الكلب” على ما وصفها يوماً شاعر سوريا العظيم “رياض الصالح الحسين”.
ماهر مسعود، كاتب وباحث سوري، ماجستير في الفلسفة الغربية.