بعد أن أصبحت الثورة السورية حرب توازنات إقليمية ودولية، وبعد أن أصبح الشعب السوري بمجمله هو الخاسر الأكبر على المستويين القريب والمتوسط، وبعد أن أصبح تنظيم داعش هو الموجّه الأقوى للسياسات العالمية في المنطقة، لم يعد هناك خيارات متنوعة أمام الشعب السوري، والأهم أنه لم يعد هناك خيارات متنوعة أمام القوى التي سمّت نفسها حليفة للثورة السورية، وبالتحديد هنا، تركيا والسعودية.
أولاً، على العكس من كلّ الكلام الديبلوماسي الرائج، ليس هناك حلّ سياسي مجرد للقضية السورية، أو وبمعنى آخر يمكن القول: إن الحل السياسي الذي تقوده الطائرات الروسية والقصف الروسي الهمجي على الشعب السوري، لا يعني سوى أمراً واحداً بشقين؛ في الشقّ الأول هو هزيمة الشعب السوري أمام نظام الأسد، والاعتراف الدولي بالأسد كبطل حرب، ومنتصر مطلق في الحرب على الثورة الإرهابية السورية، وثورات العالم العربي بالمعية (طالما أنه لن يجرؤ شعب عربي بعد اليوم على القيام بنصف ثورة بعد أن رأى ما حصل في سوريا)، وفي الشق الثاني هو هزيمة “المحور السني” الذي تقوده أنقرة والرياض، مقابل “المحور الشيعي” الذي تقوده طهران على المستوى الإقليمي، وروسيا على المستوى الدولي.
إن تمرير “الحل السياسي” الذي ترعاه أمريكا، وتقوده روسيا، وتؤديه طهران، ويلعبه الأسد، وتزكيّه إسرائيل. هو إعلان دخول العالم في مرحلة ظلامية من نوع جديد، عنوانها الإرهاب، وحقيقتها تحطيم إرادة الشعوب، وتغييب كل القضايا العادلة في العالم ووضعها، إلى أجل غير مسمى، تحت سلطة الأقوياء والأغنياء وحدهم، المافيا الدولية المتحالفة عولمياً.
إن دولاً مثل السعودية وتركيا، ليست بعيدة عن تحالف الأقوياء، بل إن ما يجمع دولاً مثل السعودية وإيران أو تركيا وروسيا أكبر بالمعنى المجرد مما يفرقها، ولكن لسوء حظ كل من تركيا والسعودية أن تلتقي مصالحهما مع مصالح الثورة السورية، وأن يحملا وزر قضية عادلة وجبارة مثل قضية الشعب السوري، بعد أن خرجت من مستواها المحلي إلى مستواها الإقليمي والدولي بحكم الضرورة، وبعد أن استبدل أوباما الدم السوري بالأسلحة الكيماوية لنظام الأسد، واستبدلت إيران برنامجها النووي بالسيطرة الإقليمية على حساب الدم السوري ذاته.
لذلك لا نرى خيارات متعددة أمام “حلفاء الأمر الواقع” الممثلين بالسعودية وتركيا بشكل رئيس، فإما الدخول البري؛ دون ضمانات أمريكية، على الأرض في حرب غير مضمونة النتائج ضدّ المحور الإيراني الروسي وتوابعه، وهو ما قد يؤدي فعلاً إلى حرب عالمية ثالثة، مع بقاء فرصة تعديل موازين القوى إقليمياً ومحلياً وإيجاد حلّ سياسي دون الأسد قائمة أيضاً. أو القبول بالهزيمة الإقليمية لهم، وعودة السوريين لحضن النظام، ثم المناورة على النتف التي قد يلقيها لهم النظام الإقليمي والدولي الجديد.
تبدو الأمور في طور الوصول إلى خواتيمها، لكنها تقف على مفترق الطريق الصعب، والقرارات التاريخية، ففي حرب الوحوش الضارية التي تتكالب على الشعب السوري، ليس هناك خيارات جيدة، ويبدو أننا أمام الفرصة الأخيرة، والخيار الأخير، فإما تسليم المنطقة لإيران كأكبر مركز إقليمي مضبوط وقوي ومنضبط بالمعايير الدولية التي نظّر لها هنتنغتون في صراع الحضارات الجديد، وما يحتّمه ذلك من الاعتراف بتقاسم النفوذ السياسي بين إيران وروسيا وإسرائيل في شرق المتوسط، أو الانزلاق إلى حرب مواجهة تغير وتعدّل موازين اللعبة السياسية والعسكرية، وتعيد فرز اللاعبين الجدد على أسس جديدة.
على عكس ما قاله كلاوزفيتش: إن الحرب هي امتداد للسياسة بطرق أخرى، اعتبر ميشيل فوكو إن السياسة هي امتداد للحرب وليس العكس. هذا ما يفعله الروس عندما يرسمون، ويرسّمون حدود السياسة على أرض الحرب، في سوريا مثلما في أوكرانيا، ولا يتوهم أحد أننا مقبلين على تغيير مهم في مسار الأحداث دون مواجهة الحرب بالحرب، بحيث تصبح السياسة نتيجة لا منطلق.
ماهر مسعود، كاتب وباحث سوري، ماجستير في الفلسفة الغربية.