Site icon مجلة طلعنا عالحرية

استباحة الانسانية في حلب

افتتاحية بقلم د. محمد العمار

“مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ” [المائدة:32]

 يتحدث القرآن الكريم عن مشروع الخلق الإنساني كوعد سلام، ويخبرنا أن مهمة الإنسان في هذا المشروع هي أنجاز هذا الوعد، وتحقيق إرادة الله في الإنسان بإنجاز هذا الوعد، الذي صرحت الملائكة باستحالته بحسب القصة القرآنية والواردة في الكتب المقدسة الأخرى أيضاً،  في الوقت الذي أعلن فيه الحق سبحانه إيمانه بقدرة هذا المخلوق على اقتحام العقبة، وتحدي الصعاب وإنجاز المهمة وتحقيق الوعد، وأجاب على اعتراض الملائكة الذين قالوا “أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك”  أجاب على احتجاجهم الصريح بلغة أكثر مباشرة تمتلئء جزماً وحسماً وإيجازاً، وتملأ من يستمع إليها إيماناً ويقيناً أيضاً: “إني أعلم ما لا تعلمون”.

 هذا النص الموجز يلخص رحلة الإنسانية، من الفساد وسفك الدماء باتجاه تحقيق إرادة الله في الإنسان، عندما يصل اللحظة التي يكف فيها عن الفساد وسفك الدماء.

لكن  في لحظة تدشين مشروع الخلق الإنساني، يروي القرآن أن تاريخ المشروع الإنساني دُشِن باختلاف بين اثنين من ذرية آدم، حوّله العجز الإنساني والقصور في إدارته إلى خلاف، نتج عنه أيضاً سفك دماء وجريمة قتل. لكن اللافت أن الوصول إلى الجريمة مر عبر موقف إنساني نبيل، هو المثل الأعلى للإنسان بحسب الخطاب القرآني، هو خلاصة رحلة الإنسان على الأرض، وجوهر رسالته؛ حيث أعلن أحد ابني آدم، أنه بلغ درجة من النضج الأخلاقي والوعي الإنساني تجعله يتقبل الموت ولا يقبل أن يرتكب جريمة قتل، فقال لأخيه: “لئن بسطت إلى يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين”. لقد أعلن أنه دخل عهد الإنسان المكرم، الذي بدأ يعي إنسانيته ويدرك معنى أن يكون إنساناً.. هذا الوعي الذي يحول بينه وبين ارتكاب الجريمة والقيام بفعل القتل.

نتدارس هذا وقلوبنا تتفطر ألماً وحسرة على الفظاعات الوحشية التي ترتكب في مدينة حلب، على مرأى ومسمع العالم (الحر) (المتحضر) بل بتواطئه المعلن أحياناً والضمني غالباً، ونتطلع إلى الأفق القرآني الذي رسمه النص الافتتاحي الذي يتحدث عن النفس الإنسانية كحرم لا يجوز تدنيسه ولا انتهاكه، وأن أي تدنيس أو انتهاك لهذا الحرم في أي زمان ومكان لأي نفس كانت، هو استباحة وانتهاك للإنسانية كلها.

 أكثر ما في مشهد الجريمة في حلب من بشاعة وفظاعة، أن كثيرين من وقودها وجناتها، ممن  يقدسون هذا الكتاب أو يقدسون غيره من الكتب السماوية التي تعطي الإنسان هذه المكانة، وهم شركاء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في المذبحة والفظاعة الجارية الآن.

Exit mobile version