لا يمكن الحديث عن وجود اجتماعي للبشر، عن اجتماع وتشارك وتعاون، حوار وحرية وكرامة أيضاً، بدون مقولة الاختلاف، بدون الإقرار باختلاف البشر وتنوعهم، خصوصية كل فرد إنساني، وتميزه عن الآخرين، الإقرار بقدرته الظاهرة والممكنة على التفكير والاستنتاج وإبداء الرأي والإبداع أيضاً، الإقرار أنه قادر أن يكون له فكره الخاص وشخصه المختلف. ليس ذلك فحسب بل إن اجتماع البشر وتعاقدهم وتشاركهم وتعاونهم، بأمس الحاجة لهذا الفرد المختلف المميز –الممكن جدا– كما أنه لا وجود اجتماعي للبشر بدون هذا الاختلاف، التباين والتمايز بين مجموع أفراده. مقولة المجتمع كائنة ضمن هذه الحيثية وناقصة جدا عند مداحل الاستبداد الذي يسعى لإلغاء الاختلاف محاولا إنشاء النسخ المتشابهة، المتماثلة حد التطابق. المجتمع الذي ليس هو مجموع أفراده كما علمتنا كل المدارس التافهة والمتيبسة ثقافياً، بل هو بالضبط شركة وتشارك قوامه العلاقات (خارجية: عمل تبادل تجارة …الخ، وداخلية حب وحوار وتبادل أفكار ومحبة وزواج وإنشاء أسرة وعائلة وتربية أطفال ورعايتهم..). وبما أنه لا علاقة بين متشابهين، لزوم العلاقة هو بوجود أفراد مختلفين، تكون مقولات المجتمع والاجتماع البشري والشعب ككتلة سياسية مضروبة ومصادرة في دول الاستبداد.
وربما كانت أشد أشكال المصادرة هي الدولة الأمنية والدولة الدينية وتعبيرهما الأسطع منذ نهاية القرن العشرين هما سورية وإيران. ويبدو من المنطقي الاعتقاد أنه مع تهاوي النظام الأمني في سورية ونهاية هذا الفصل المحزن المخزي، العار الكبير في تاريخ الإنسان منذ بدء الخليقة، يبقى الخطر الأكبر هو استمرار تلك الدولة الفظيعة على شعبها وشعوب المنطقة التي تسمى إيران، خطيرة باستخدامها المعتقد لتشن حربا على الإنسان عبر استنساخه على مدى عقود، دافنة كل إمكان لولادة الفرد المفكر المبدع المحب، مستبدلة بذلك أفراداً متشابهين يلبسون العمامة ويعانون من عقدة الذنب لمقتل الحسين، محولين هذه العقدة إلى عدائية غير مسبوقة تجاه أقوام محيطة بهم، عدائية تصل حد الرغبة بالقتل والفتك بمجموع المسلمين في العالم عدا الشيعة الذين هم مذهب الحرس الثوري فقط! أليست دولة لا تضاهى بالقبح تلك التي ترعى وتربي مواطنيها على اثم لم يرتكبوه، يخص حادثة مضى عليها 14 قرنا من خلال تعزيز حضورها بالوجدان العام للناس ونقلها من ساحة الوهم إلى ساحة الضمير الواخز لصاحبه. التركيز عليها بالمدارس والجوامع وحتى الجامعات، تربية الأطفال على أنهم لم يناصروا الحسين عندما جاء إلى العراق، وأن من قتل الحسين هم جيرانكم في تلك البلاد المحيطة بنا. أليس هذا بالضبط هو المسعى لبناء الشخص الذهاني من خلال تعزيز الشعور بالذنب والتعويض بالعدائية؟، تلك العدائية التي يعززها الكبت المعمم والحياة المحاصرة بالرقابات الدينية والسياسية والجنسية والتي تحول الإنسان الى كائن مكفوف، عاجز عن التفكير والنقد والحب والاهتمام بالآخر. إن كل من كبر في ظل حالة الكبت والخوف والشعور بالذنب ولم يستطع الخروج من دائرة التربية الإيرانية أمامه خيارين، إما أن يعبر عن عقدته المكبوتة بالعدوانية والحرب والجريمة وتعذيب الآخرين، أو أن يعيش مكفوفا كئيبا عاجزا. ولا نعمم هنا فبالطبع لا يمكن لأعتى الأنظمة إطفاء جذوة الحياة بالكامل، وهناك الكثير من الإيرانيين الأحرار الذين امتلكوا جرأة التغيير وقمعوا بأحقر وسائل القمع. أليست تلك الحالة الموصوفة هي حال الحرس الثوري الإيراني، وأبو الفضل العباس وحزب الله. فرغم أن التشكيلين الأخيرين ليسا إيرانيين، لكن يمكن القول إنهما مدارس إيرانية بالوكالة. هؤلاء المكفوفين العاجزين عن الإنخراط في بلدانهم، عن إقامة العقد الاجتماعي والمشاركة في بناء أوطانهم (حزب الله مُعطِّل سياسي دائم في لبنان، حجر عثرة أمام أي مستقبل. السيستاني وزمرته في العراق، الحوثيون في اليمن، والجميع يقول بولاية الفقيه ويتلقى الدعم اللامتناهي من إيران، اللائحة السابقة لم تكن يوما إلا تعبيرا ضدياً عن أحلام الناس ومستقبل البلاد). لم يقدم هؤلاء إلا نموذجا واحدا، مقاتلين منتفضين على بلادهم. أليس من الغرابة أن تقدم السياسة على أنها وعاء يرتاح فيها الذهاني؟ تلك هي إيران.