مجزرة 13 كانون الأول/ ديسمبر 2015
بيان ريحان
“الدماء منتشرة في كل مكان.. قدمها بالكاد تكون معلقة بساقها ومرمية على أرض الغرفة، يتدلى من يدها أنبوب يربطها بكيس السيروم..
ثلاث أسرة غصت بأجساد فتيات لا تتجاوزن العاشرة من عمرهن”.
كانت الساعة الثامنة صباحاً. بدأ اجتماعنا في قاعة إدارة المعهد الذي تحيط به خمس مدارس لطلاب الحلقة الأولى.. كنا نتابع سير حملة أطلقناها عن التعليم في مدينة دوما الذي كان في خطر بسبب القصف العنيف الذي تتعرض له المدينة..
كنا نعمل في السلك التعليمي، ومن إحساسنا بأهمية التعليم أردنا تسليط الضوء العالمي على أوضاع طلاب مدينة دوما، فاتخذنا شعاراً لحملتنا: “من حقي أن أتعلم”.
بعد عشر دقائق من بداية الاجتماع سمعنا صوت انفجار صاروخ عنقودي، تبعه عشرة انفجارات متتالية للقذائف التي بداخله.
قالت لي فايزة: سأغادر قبل أن تبدأ حفلة القصف. فضحكنا لكلامها، حيث أردف حسان قائلاً: ألا تؤمنين بأن حصتك من الصواريخ ستلحق بك أينما كنت؟ فردت عليه: بلا..
لم تكد تكمل فايزة كلمتها عندما انفجر الصاروخ الثاني الذي كان أقرب بكثير من الصاروخ السابق.
قفزنا من أماكننا وارتميت على فايزة وأنا أضحك بشكل هستيري، قائلة: “فايزة نفدنا هي المرة كمان”.
ولكن فايزة صرخت بصوت عنيف ممسكة بيدي مشيرة إلى رأسها، لأرى الدماء تسيل وشظايا انتشرت في المكان.. حسان كان ارتمى في الجانب الآخر.
ضغطت على جرح صديقتي وركضنا نطلب الإسعاف والانفجارات تتتالى..
الطالبات في المعهد أسرعن إلى الممر الذي يعد آمناً أكثر من الصف، والصراخ يعلو بينهن.
صعدنا السيارة التي جاء بها حسان لننطلق بسرعة جنونية، ولكن لم تكن إلا لحظات حتى استوقفنا شخص يحمل طفلتين وينادي: إسعاف!
نزل حسان وحمل واحدة ووضع الثانية معي في الخلف، ولكنها كانت قد فارقت الحياة. رأيت الشظايا قد مزقت بطنها واخترقت جسدها!
نزلنا إلى بهو الإسعاف، لنجد أكثر من عشر جثث في انتظارنا.. أشلاء ودماء هم ضحايا الصاروخ الأول الذي عرفت فيما بعد أنه نزل في السوق الشعبي.
لا يوجد إلا طبيبان ومسعفون متطوعون.. مصابون كثر.. وقادمون جدد يتعرضون للفرز إما للعمليات مباشرة أو ينتظرون دورهم حسب درجة إصابتهم.
أشار لي المسعف بأن أتجه إلى قسم النساء والأطفال، حيث دخلت لأرى مشهداً سيريالياً، لا توجد كلمات في اللغة تستطيع وصفه..
ما يقارب من ثلاث عشرة طفلة محملات بحقائبهن المدرسية!
رنيم على أرضية الغرفة قدمها معلقة بساقها والدماء تنزف منها، وهي مصدومة لا تتكلم سوى دموعاً تنهمر من عينيها تفضح ألمها المكتوم.. تستند إلى حقيبتها المدرسية حيث وضع بجانبها كيس السيروم الموصول إلى يدها.. كانت تنتظر نقلها إلى غرفة العمليات ليبتروا لها ساقها!
لانا كانت أكثر الفتيات صراخاً.. إصابتها في البطن.. ليلى وخولة شقيقتان تمسكان ببعضهما. إصابة ليلى أكبر من أختها لذلك كانت تحتضنها وتمسكها.. محظوظتان حيث كان لهما مكان على السرير!
البقية لم يتسنَّ لي الوقت لأتعرف على أسمائهن..
بحثت عن الطبيب لأجده غارقاً بين عدة أجساد ممزقة، يقيّم حالاتها ويوجه المسعفين. رفعت صوتي لأناديه فاستجاب بسرعة وفحص صديقتي بسرعة وقال لي: “سطحية.. لتنتظر دورها في التضميد”. ولكن فايزة قاطعته: “دكتور إنه رأسي، وهناك..” فقاطعها وذهب وقال “سطحية” ليعود إلى بهو الإسعاف.
بدأ الأهل يتوافدون إلى النقطة، مع أن القصف اشتد ولم يتوقف، باحثين عن أولادهم، ولكن النقطة لا يمكن أن تحتمل أي فوضى إضافية..
سألت خولة الطفلة أن تعطيني ورقة وقلماً لأسجل بها أسماء الطلاب الموجودين، ولكنها رفضت وقالت أمي أوصتني بأن أحافظ على دفاتري.. لم تنسَ خولة مع هول الموقف نصائح أمها في حفاظها على أدواتها التي أمنتها بصعوبة حيث خنق الحصار الجميع..
أخبرتها بأني آنسة، وسوف آتي لزيارتها وأشتري لها دفتراً جديداً، وبأنني أريد أن أوصلها لأمها. وهنا بدأت الفتيات يبكين وينادين: “آنسة بدنا نروح على البيت” وعلت أصواتهن، فابتسمت وقلت لهن سأعيدكن إلى المنازل ولكن بشرط أن تهدأن.. سأسجل أسماؤكن على الورقة..
ارتاحت وجوههن بعد معرفتهن بمهنتي. أحسست بعظم عملي في هذه اللحظة! سجلت الأسماء والعناوين وذهبت إلى المدخل لأسجل الشهداء وأوثق الإصابات التي تم نقلها، ولأخبر الأهالي عن الموجودين ونوع الإصابات.. وهناك صرخ أحد المسعفين يطلب مني أن أساعده بتضميد مصابة، وآخر يعطيني اسماً، ومصور يحمل كاميرته ليوثق المجزرة يتجول في الأرجاء ويسألني عن الأطفال.. والقصف مستمر، والصواريخ بدت أقرب إلى مكاننا.
ومن ثم أعود إلى الجناح لأطمئن على صديقتي والأطفال..
وبعد ثلاث ساعات هدأت وتيرة القصف، و بدأنا بالتعاون مع المسعفين بإيصال الطلاب إلى منازلهم، ومن ثم عدت إلى منزلي مضرجة بالدماء، حيث فزعت أمي عندما رأتني، ولكنني طمأنتها وأخبرتها بأنها دماء مصابين..
انتشر خبر مجزرة الطلاب، وبدأت تظهر أسماء الشهداء والمصابين لأعلم بأن مديرة المدرسة استشهدت و45 شخصاً آخر، وبُتِرت أقدام ثلاث فتيات من صواريخ العنقودي..
وسائل الإعلام بحاجة إلى شاهد عن المجزرة، فكانت فرصتي لأخرج غضبي من داخلي، وأروي ما حدث في هذه المدينة المنكوبة.
سألتني مراسلة البي بي سي البريطانية عن المجزرة مستفسرة: “هل النظام قصف المدرسة؟” وسردت لها ما حدث فأجابتني: “لماذا ما زلتم في مدينتكم ولم تخرجوا؟.. هل داعش موجودة في هذه المدرسة؟.. هل النظام السوري من قصف المدرسة أم المسلحون؟..”.
صرخت: “لا.. لا يوجد داعش! إنها صواريخ عنقودية، وهذه مدارس أطفال، والطيران الروسي من رمى بها على رؤوسنا”.
قاطعتني: “وكيف تتأكدين من أن النظام من قصف المدرسة؟ ولماذا الأطفال في مدارسهم؟”.
أدركت أن الجريمة التي حدثت في مدينتي لا تعني أحداً، وأن هؤلاء الأطفال لن يجدوا من يهتم بهم لذلك.. قطعت الاتصال!
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج