حيثُ أنت، تعرفُ الزنزانةُ أنّها أصغر منك، وأضعف منك، وتعرفُ الزنزانةُ أنّك نظيفٌ لدرجةٍ لا تدركها هذه الأماكن، نظيفٌ لدرجة أنكَ أنقى من أوطانٍ قذرة –بإرادتها أو رغمًا عنها- وتعرفُ الأوطانُ ذلك، وتحزنُ لتغييبك، وحدهُ النتنُ من يكره وجهَ الماء الذي هو وجهك، حيثُ أنت؛ يدركُ الطغاةُ خطرَ الوحشِ الذي لا يفترس لحمًا، ولا يأكل جيفةً، بل يصرخُ كيّ يهزّ سماواتِ الخوفِ ويمطرَ ثورة، وحيثُ أنت؛ تعرفُ الثورة أنها تيتّمت!
يا حاملَ همّ النّارينِ تُشعلُ جبهةَ الموتِ لتضيءَ حياةً، يا صوتَ جنوني وجنون الناجينَ من الموتِ، ويا مرآتيَ الأولى، ورهبةَ ثائرٍ، يا بحّة النّائحةِ، ودمعةَ المهلهلةِ، وضحكة طفليكَ، وغربة شقيقك! ماذا ستعرف عن منتظرٍ لم يرَكَ إلّا مرّة وحيدة؟ وكيف أقصّ عليكَ نبأُ أمّنا التي لم تنجبْني وأنجبتكَ! وكيفَ أخبّئ وجهي خجلاً من خرَسٍ يصيبني حين ترسل لي “مرحبا يا خالتي”! ماذا تعرفُ في زنزانتك عن خوفي كلّما لمحتُ صورتك أن أقرأ خبرًا سيئًا كلّي يقينٌ أنه لن يصيبك! وماذا سأقول لك حينَ تخرجُ ولا تراني قمتُ بواجبي كما يليق؟
حيثُ أنت؛ تعرفُ وجهَ بلادنا الحقيقيّ، الزنازين هي وجه بلادنا، والمراكز الثقافيّة مكياجٌ رخيص برائحة عفنةٍ اعتدناها حتّى ظنناها طبيعية! الزنازين يا أخي هي الصورة الحقيقيّة لبلادنا دون تعديلاتٍ بصريّة أو لمساتٍ فنّية لفنانين متواطئين مع العار، الزنازين وأصواتُ المحقّقين، ورفسات السجّانين، وصور القاتل، وروائح الموت، والحشراتُ الهاربة من مخلّفات سكّان المدينة العليا، كل هؤلاء يشكّلون الحلّة المتكاملة لما يعرف بالوطن، الزنازين يا أخي، أصبحت تعرفك أكثر مما أعرفك! انظر كم أصبحت متأصلةً هناك!
منذ أن التقينا على فنجان قهوة في دمشق، ورفضت أن تأتي لزيارة سيّدة لا تطيق حديثتها، وأنا أهربُ من ذاكرة اليوم الذي سبق غيابك! وحرّمتُ المقهى عليّ، وبعدها، حرّمتُ دمشقَ.. دمشق البعيدة عنّي الآن، وعنك أيضًا، فدمشقُ العامرة فوق الأقبية المظلمة أبعد كثيرًا من فلسطين التي قطعت الأسلاك الشائكة لتتسلّل إليها، أبعدُ كثيرًا عن صوتك وأنت تدندن “يا عتم الزنزانة” وتمدّ لسان الحياة في وجه حرّاس الخوف لتزعزع قلوبهم، ودمشقُ فوقك، قد لا يهمّ كثيرًا كيف أصبح شكلها، المهمّ أنها، كانت أصغر من أن تتسع لجناحيك!
ماذا أقول لك عن المخيم يا مهنّد؟ هل يكفي أن أقول لك: لم يبق منه شيء؟ ولم يبقَ فيه أحد؟ ولم يعد هناك ما كنّا نسمّيه مخيّمًا ونسمّي أنفسنا أبناءَه! هل يكفي أن تعرف –وأنت تقترب من عامك الرابع في الزنزانة- أن المخيّم كان زنزانة كبيرة ربما ببشاعة زنزانتك مات فيه كثيرون تعرفهم جيّدًا من الجوع! لم تسمع بالبراميل المتفجّرة فهي أمر طرأ بعد غيابك، ولم تسمع بالدولة الإسلاميّة، كيف أشرح لك عن شيء لا يمكن أن تتخيّله؟ وماذا أقول لك عن المخبرين الذين سلّموا أصدقاءنا للأمن من على المعبر، وكيف أشرح لك ماذا يعني المعبر! المعبر يا أخي، هو حاجز اسمنتي بشريّ أغلق المخيّم وقطعه عن العالم بعد أن فتح المخيم بابه للجميع، المعبر هو ربطةُ خبز وضعها فلسطينيون وسوريون مثلنا لمحاصرين جائعين فلسطينيين وسوريين مثلنا، وقنصوا كل من يقترب منها، المعبر… ربّما لا تريد أن تعرف كل هذا، وهذا أفضل، ربّما يجب أن تعرف فقط .. أننا ننتظر عودتك قريبًا.
شاعر وكاتب صحافي من سوريا – فلسطين.
رئيس تحرير صحيفة “أبواب” ومحرر القسم الثقافي سابقاً في مجلة “طلعنا عالحرية”. صدر له في الشعر “سيرًا على الأحلام” 2014 عن دار الأيام – الأردن، وله كتابان قيد الطبع في الشعر “لم ينتبه أحد لموتك” و”لابس تياب السفر” في الشعر المحكي. يكتب في العديد من الصحف والمواقع العربية والألمانية. ترجمت نصوصه وقصائده إلى لغات عديدة كالإنكليزية والألمانية والبوسنية. يعيش في ألمانيا منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2014 بعد استضافته من قبل مؤسسة الأديب الألماني “هاينرش بول” في منحة تفرّغ إبداعي للكتابة.