استعصاءٌ سوريٌّ مرتبط بتعليق الحلّ يلفّ جميع القوى. وقد أفلس هذا الاستعصاء لوصول القوى إلى خواتيمها ما دامت القصديّة الذاتية لهذه القوى؛ أي التضايف الذي لا ينقطع بين القوى المتضاربة وبين موضوعها، هي الركن الأساسي في الحالة السوريّة. مما يؤكد لنا -على النقيض مما يقوله الكثيرون- أنَّ مشروع بناء الدولة السوريَّة -كما أرادها المؤتمِرون أو المتآمرون بالأحرى في عدة مؤتمرات- على أسس راسخة من الوحدة والعلمانية والوطنيّة هو مشروع مفلس سلفاً.
وهكذا نجد تزامن تجميد مفاوضات “جنيف” بين النظام وبين المعارضة مع إعادة حيي “نبل” و”الزهراء” الحلبييّن إلى سيطرة النظام. وتلا ذلك تصعيد جويّ روسيّ غير مسبوق على محافظة حلب ولا سيّما ريفها الشماليّ؛ الشيء الذي أدى إلى نزوح عشرات الألوف في أسبوعين من القصف إلى تركيا، وما زالوا عالقين حتى اللحظة أمام معبر “باب السلام” وتحاول تركيا مساعدتهم داخل الحدود السوريّة وتلوِّح بإرسالهم مع غيرهم إلى أوروبا لتبتّزها بإغراقها باللاجئين، وتجعل منهم “وسيلة إيضاح” على الهمجيّة الروسيّة، وتُرسِل للعالم من خلال مأساتهم أهمية دورها في الاستعصاء السوريّ لتبرير تدخلها البريّ بمعية السعودية.
وتهدد السعودية داعش براً وجواً تحت مظلة التحالف الأميركي ولكن مع تردّد أمريكي سيزيد السلاح للمعارضة السورية ومنها صواريخ غراد، فمتى تخرج السعودية على حلفائها وتنظر لنفسها كلاعب أساسيّ وليست تابعة أو ثانوية. وبالرغم من إعلانها قتال داعش فإنَّ هذا القتال يزعج الروسي والإيراني! فالروسي سيحرِّك ملف التدخل السعودي في اليمن، والإيراني سيزيد من دعمه للحوثيين إذا لم تستجب السعودية لدعوتها في العمل المشترك في سوريّة.
ويهدِّد “ميدفيد” رئيس وزراء روسيا بحرب عالمية ثالثة وبحرب باردة ظاناً بنفسه أنَّه ممسك بخيوط اللعبة، ومستهتراً بالقوى الأخرى. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو لماذا تحولت السعودية وتركيا وروسيا إلى التصعيد العالي طالما أنَّ لكل منها قوى على الأرض؟ أي لماذا استنفدت وكلاءها واضطرت للتدخل كأصلاء؟ لأنها أفلست طوال الفترة الماضية من إيجاد وخلق موازٍ وطني لها. فلا مبرر للتفاؤل بالتدخل السعودي البريّ لأنه ضدّ داعش وبرعاية أميركية، ولا تفاؤل سوريّ بالتدخل البريّ. وقد انخفض مستوى المراهنات حتى بات يقارب الصفر.
إنَّ السوريين إزاء اللاأدريّة السياسيّة والإرادويّة في صناعة مستقبل سوريّة. فاللاأدريّة السياسيّة وتعليق الحل في سوريّة وتعميق استعصاء عسكريّ/سياسيّ في آن جعلت جميع القوى بحالة استعصاء في سورية لانعدام القطبيّة الدوليّة وتعميم الفوضى وكثرة القوى المتدخلة وتضارب أجنداتها. مرَّ النظام باستعصاء فاستدعى الإيراني، فمرّ باستعصاء فاستدعى الروسي وما بينهما من مليشيات طائفية. يمرُّ الروسي باستعصاء فيلجأ إلى القوة والتفاوض في آن…ليمرّ السعودي باستعصاء فيلجأ للتدخل البريّ وكذلك التركيّ، وهذا مؤشر على عدم نجاح مراهناتهم السابقة.
وما بيان مؤتمر ميونخ إلّا لتأجيل التدخل البري السعودي/التركي وفرملته مؤقتاً بشكل أساسيّ، وبالتالي إبقاء الاستعصاء السوريّ تحت السيطرة الحرجة. فلا تتدحرج الحالة إلى حرب عالميّة كما يحلو للبعض في مبالغاتهم الكلامية، ولا لحرب إقليمية كذلك. إنها خطوة على طريق ترتيب النظام العالمي من جديد بعد نقطة اللاتوازن التي عاشها في الفترة الماضية.
ولاسيّما أنَّ اجتماع ميونخ قد تدحرج من وقف إطلاق النار إلى وقف الأعمال العدائية، ومن فك الحصار إلى إيصال المساعدات جواً وبراً بشكل متزامن بين مناطق المعارضة ومناطق النظام، ودعا للعودة إلى التفاوض لتقرير مصير سوريّة.
والثابت في هذا الاستعصاء أنَّ لا أحد يعرف مستقبل سوريّة ومصيرها رغم محاولات جميع القوى المحمومة التأثير في مستقبلها بشكل أو بآخر؛ لأنَّ الظواهر الفوضوية لا تمتلك معدلاً وسطياً يمكن تنبؤ المستقبل بواسطته! فهل تمتلك ظاهرة ما في سوريّة معدلاً وسطياً لتغيرها؟!
لقد كان عالم الرياضيات “غاوس” صاحب “المنحني الجرسي” الإحصائي يعتقد بأن الظواهر المتغيرة والمتذبذبة والمضطربة وحتى الفوضوية منها، تمتلك معدلاً وسطياً للتغير، فيمكن دراسة هذه التغيرات استناداً إلى هذا المعدّل والتنبؤ بمستقبل الظاهرة بواسطته. ولكن، ما معدل القتل في سوريّة؟ ما معدل الاعتقال؟ ما معدل القتل تحت التعذيب؟ ما معدل اللجوء والنزوح؟ ما معدل تغير صرف الليرة السوريّة مقابل الدولار؟ ومثل هذه المتغيرات تٌكذِّب “غاوس”؛ فلا أحد يعرف طالما أنِّ زمن الظاهرة مستمر ومتغير، وعند وقوف الزمن يمكن لنا معرفة معدّل التغير في الظاهرة ولكن لا يُمكِّننا هذا من معرفة التغير في المستقبل استناداً إلى هذه المعرفة. وبهذا يكون إفلاس هذا الاستعصاء.
لامخرج من هذا الاستعصاء إلّا بالسعي إلى الحلِّ حسب روح قرار مجلس الأمن 2254 والابتعاد عن تعليق الحلِّ لمقاصد عدة. فيشعر السوريون بالضياع وهم عاجزون إزاء هذا الهراء. وكأن ما يحدث لهم هو من نواميس الطبيعة التي لا رادّ لها. وتغيب عنهم القصدية الكامنة في ثنايا القصف والقتل والتهجير والتدخل.. لأنها قصدية غير معقولة بتاتاً ولايمكن قياسها على ما سبق من أحداث تاريخية. فهي حالة جديدة كل الجدّة ويجب التعامل معها بعقل جديد وأدوات جديدة. فاحذروا تدحرج السوريين من طاولة المفاوضات إلى المزيد من التطرف والاستعصاء.
شوكت غرز الدين، كاتب سوري، ماجستير في فلسفة العلوم، الايبستمولوجيا.