يبدو غريباً شبه انعدام اهتمام السوريين بمحادثات الأستانة، مقارنة باهتمامهم بشطحات ترامب على سبيل المثال، لكن هذه الغرابة تجد تفسيرها المباشر من خلال تغييب صوت السوريين المتعمّد في هذه المحادثات، ومن خلال الشعور العام المتزايد بانعدام سيطرتهم على مصيرهم ومصير بلادهم.
أول ما يلفت الانتباه في تركيبة الوفد المفاوض باسم الثورة السورية، هو غياب الثورة نفسها، حيث لا دور للمدنيين، ولا دور للمؤسسات المدنية، وحيث العمود الفقري للوفد المفاوض ورأسه من العسكر.
لكن المفارقة تبدو منطقية بالنسبة للرعاة الروس، فهم يعلمون كما يعلم الجميع، أن الفصائل العسكرية الثورية هي في الواقع أضعف ما عند الثورة! وأنها تواجه النظام بنفس ممارساته؛ صحيح أن حجم هذه الممارسات وفاعليتها لا يقارنان مع حجم إجرام النظام وحلفائه.. لكن لنتذكر أن الوفد يظن أنه يتكلم باسم ثورة السوريين من أجل الحرية والكرامة.. باسم ثورة الكرامة! مما يجعل القياس بالكمّ بحد ذاته مسيئاً.
قد تطالب الفصائل العسكرية النظام بإطلاق سراح المعتقلين وهم بمئات الآلاف، وبتفكيك أجهزته الأمنية وهي النواة الصلبة لوجوده، بينما تمتلئ سجون للفصائل -مع الفارق الواضح بالحجم والقدرات- بمعتقلين ومخطوفين سوريين أيضاً. كما أنها أصبحت تمتلك أسباباً تمسّ أصل وجودها للتمسّك بمكاتبها الأمنية التي لا تختلف بالممارسة والوظيفة والجوهر القمعي عن الفروع الأمنية للنظام ذاته!
يتكلم وفد المعارضة عن معاناة السوريين في ريف حلب وإدلب وفي قرى درعا وبلدات الغوطة الشرقية.. يتكلم باسم تلك المناطق التي تسمّى “مناطق المعارضة”، ولا يتكلم عن معاناة السوريين في المناطق التي تسمّى “مناطق النظام”، أو عن معاناة حقيقية للسوريين في الرقة ودير الزور؛ “مناطق داعش”..! أو عن معاناة سكان دمشق مثلاً؛ حيث يوجد أكثر من نصف السوريين الباقين في سوريا اليوم! إنه منطق أمراء الحرب، منطق تمزيق سوريا والسوريين، ومنطق ارتهان السكان للقوى القامعة التي تجثم فوق صدورهم.
لكن.. ماذا كان على الوفد أن يفعل أو أن لا يفعل؟ لا شيء يسلمه من انتقادات محقّة وموضوعية أحياناً، وباطلة وذاتية في أغلب الأحيان. السوريون لا يعجبهم العجب! وأفضل نصيحة نتذكرها اليوم هي أن علينا أن نقلل من توقعاتنا حتى لا تكبر إحباطاتنا؛ لتصير نظرة قوية على وجوه الوفد وهو قبالة وفد النظام، إحدى الإنجازات التي نهلل لها.. وهزة بدن لوفد النظام بعد خطاب رنان من وفد الثوار أحد أهم مخرجات المؤتمر..
رغم كل شيء، لا مفر من القول إنه إذا كان هناك بصيص من أمل أمام هذه المحادثات في إمكانية إيقاف القتل والتدمير والتهجير، فهذا على كل حال إنجاز كبير وإن تأخر كل هذا التأخير، وربما بات علينا بعد كل تلك الخيبات والانكسارات والكوارث أن نقيس المكاسب بمحاولة الخروج بأقل الخسائر.
ومهما يبدو مضحكاً.. أو مؤلماً الحديث عن أقل الخسائر.. بعد كل هذه الأثمان التي دُفعت والتي لا يمكن استعادتها، لكن أن نخسر كثيراً يبقى أفضل من أن نخسر كل شيء، ومن دون أن يستعيد السوريون صوتهم ودورهم لا شيء بمقدوره أن يرمم خسائرهم الفادحة، أو أن يعدهم بمستقبل أقل فظاعة لأولادهم.
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج