عامٌ ثقيل مرّ على الفرنسيّين. بدأ بهجوم إرهابيٍّ على موقع صحيفة شارلي إيبدو وراح ضحيّته 12 ضحيّة، وها هو ينتهي بمجزرة رهيبة تهزّ المجتمع الفرنسي ولم تعرف الحصيلة النهائيّة لعدد ضحاياها حتّى اللحظة.. المجزرة المروّعة يرى فيها كثيرون حدثاً يعادل اعتداءات أيلول التي ضربت الولايات المتّحدة، فالأسلوب الذي تمّت به العمليّة والتنسيق عالي المستوى، والأسلحة المستخدمة، ومحاولة استهداف ملعب يجمع عشرات الآلاف من المشجّعين بحضور الرئيس الفرنسي مع شخصيات سياسية، كل هذه العوامل تجعل من المجزرة حدثاً استثنائيّاً بكلّ المقاييس.. سيّما وأنّ المجتمعات الأوروبيّة، المجتمع الفرنسي على وجه الخصوص، تغلي بحوارات على المستوى السياسي والاجتماعي حول مشاكل الاندماج والهويّة، وحول الآثار الاقتصاديّة لظاهرة الهجرة.. في ظلّ هذه الأجواء التي كان فيها الوجود الإسلامي في فرنسا مادّةً رئيسيّة في البرامج الانتخابيّة للأحزاب المتنافسة، تأتي المجزرة المروّعة لتعطي دفعاً هائلاً للأحزاب اليمينيّة المتطرّفة التي حقّقت تقدماً كبيراً في الانتخابات الإقليميّة الأخيرة..
على المستوى الدولي، جاءت المجزرة في ظرف بالغ التعقيد لتزيد من خلط الأوراق على الساحة السوريّة بشكل خاص. تقف فرنسا موقفاً واضحاً ضدّ تنظيم الدولة وتخوض مع الولايات المتحدة حرباً ضدّه في سوريا، وضدّ فصائل السلفيّة الجهاديّة في عدّة مناطق من إفريقيا، وهنا يمكن القول إنّها كانت منذ فترة طويلة مستهدفة من قبل هذه التنظيمات وأنصارها في أوروبّا، سيما وأنّ نسبة الجهاديّين من أصول فرنسيّة في صفوف تنظيم الدولة هي الأعلى من بين جميع الجنسيّات الغربيّة، ويبدو أنّ ازدياد الضغط على التنظيم وتلقّيه ضربات موجعة في الفترة الأخيرة جعله يتوجّه إلى هذه النوعية من العمليّات في العمق الأوروبيّ، الأمر الذي يعيد الثقة بقدراته بين صفوف أتباعه، وهذا ما سيؤدّي أيضاً إلى زيادة عدد أتباعه في دول أوروبّا، ولا يستبعد أن يؤدي ردّ الفعل الخاطئ تجاه المتشدّدين في أوروبا إلى زيادة العصبيّة والتوحّش عند أتباع التنظيم، وبالتالي ارتفاع منسوب العنف والإرهاب..
من جهة ثانية، تقف فرنسا موقفاً حازماً في وجه نظام بشار الأسد، وهي متّهمة من قبل رأس النظام بدعمها للمعارضة والعمل على إسقاطه، وليس أدلّ على ذلك من الخروج الشامت للأسد بعد ساعات من حدوث المجزرة، وقد عمل الأسد على الربط بين سياسة فرنسا في دعمها ما أسماه الإرهاب وبين تعرّضها للعمليّات الإرهابيّة.. الأحداث الأخيرة أعطت الأسد ونظامه أملاً جديداً بالنجاة، فقد رأى مؤيّدوه أن هذا سيدفع فرنسا للتحالف مع الروس لإعطاء الأولويّة لمكافحة الإرهاب وإعادة الإعتبار لنظام الأسد لكون وجوده ضرورة في هذه المرحلة.. تتلاقى إذاً مصالح الأسد مع مصالح تنظيم الدولة في المجزرة الأخيرة، وهي ليست المرّة الأولى التي تتلاقى فيها مصالح الطرفين بما يخدم تمدّد التنظيم واستمرار النظام.. ويكاد غالبية المراقبين يُجمعون على أنّ مصلحة السوريّين تلقّت ضربة جديدة بفعل هذا الجنون.. ليس في الداخل فحسب، بل في كلّ مكان، ومعها مصلحة جميع المسلمين المقيمين في أوروبّا..
في ظل كل هذه التعقيدات ظهرت تعقيدات جديدة سبّبتها المواقف الحادّة من الجريمة مقارنة بالمواقف الهزيلة من الجرائم التي ترتكب في مناطق أخرى من العالم، وفي مقدمتها جريمة الإبادة التي يتعرّض لها الشعب السوري من قبل أطراف عديدة.. اللافت كان حجم التضامن العالمي مع الضحايا وعائلاتهم ومع المجتمع الفرنسي ككل، دول عديدة زيّنت ساحاتها بالعلم الفرنسي، من أمريكا إلى المكسيك إلى أستراليا ومعظم دول أوروبا والعالم.. وهو تفاعل إنساني إيجابي ولا شكّ. اللافت أيضاً تفاعل كثيرين في عالمنا العربي مع الحدث، في الوقت الذي لم يحصل فيه عشرات الآلاف من الضحايا في سوريا على معشار هذا التأييد، وهنا أذكر بكثير من الأسى مجزرة الكيماوي التي اكتفى العالم الغربي بمعاقبة الفاعل من خلال سحب أداة الجريمة من يده وإطلاقه لاستكمال مهمّته الدمويّة باستخدام البراميل! وفي سوريا نفسها هناك من شكّك بمسؤوليّة النظام عن مجزرة الكيماوي، ولم يسجّل تعاطفه مع الضحايا لاعتبارات عدّة تتعلق بانتماءات سياسيّة أو طائفية أو إثنيّة.. وهناك من يفرّق بين ضحايا وضحايا وبين إرهابٍ وإرهاب!
تحمل كل مأساة معها فرصة لاستعادة الإنسانيّة المخطوفة لصالح السياسة.. يحدث ذلك فقط عندما يكون الموقف من الإرهاب موقفاً مبدئيّاً متحرراً من الحسابات. نحتاج اليوم إلى إدانة القتل.. كل القتل، كل العنف، كل الإرهاب..
العنف باسم الإسلام.. العنف باسم الديمقراطية.. العنف باسم القومية العربية.. العنف باسم القومية الكرديّة.. العنف باسم العلمانيّة.. باسم الإلحاد.. باسم الحسين وزينب.. باسم اليهودية والمسيحية.. باسم البوذية.. باسم الشيوعية.. باسم أو بدون اسم.. أو العنف لمجرّد العنف..
من يتردّد في إدانة العنف لاعتبارات تتعلّق بانتمائه للجماعة المدانة فهو بحاجة إلى علاج نفسي.. هو مشروع إرهابي ببساطة..
كاتب سوري