عادةً ما تبدأ المقالات والأبحاث والدراسات عن الوضع السوري مؤخراً، بهذه العبارات: في الحرب السورية التي أودت بحياة ما يزيد على (200) ألف قتيل، و(10) مليون نازح ومهجر ولاجئ، وخسارة مليارات الدولارات.. أو في الحملة الدولية التي تقودها الولايات المتحدة ضد تنظيم ‘‘داعش’’ الذي يسيطر على مناطق شاسعة من سوريا التي تشهد منذ ثلاث سنوات حرباً أهلية عنيفة.. أو غيرها من الجمل، والعبارات التي تنطلق من مقاربات معرفية مشابهة، تصف ما جرى منذ منتصف آذار 2011، وحتى الآن، بأنه وفقط حرب داخلية عنيفة، أو حرب أهلية على مستوى وطني.
في الحرب، أي حربٍ، سواء أهليةً، أو دوليةً يسقط الضحايا، مائتا ألف، مليون أو أكثر، لا يهم فموت الناس هو النتيجة الأولى للحرب، وخسارتهم لبيوتهم وأملاكهم، وتهجيرهم من مدنهم وقراهم، ليتحولوا إلى نازحين ولاجئين هو النتيجة الثانية، وتدمير البنى التحتية والمؤسسات والمنشآت، وضياع موارد البلاد وثرواتها هو نتيجتها الثالثة، وهذه النتائج وغيرها بالطبع، لا تزول أثارها بمجرد انتهاء الحرب، فهي إذ تتولد عن تعرض المجتمع بعلاقاته وبناه التحتية والفوقية لقطوع وانكسارات ‘‘نووية’’، يبقى حضورها وتفاعلها مستمراً لسنوات وعقود، ما يفضي في النهاية إلى نشوء أوضاعٍ سياسيةٍ عامةٍ جديدةٍ.
بالتأكيد هناك اليوم حربٌ، أو حروبٌ متوازية تجري في سوريا، وهذا مما لا يختلف عليه اثنان، لكن ما نختلف عليه، وما نحاول الوقوف عنده في التعاطي مع الشأن السوري سياسياً، أو إعلامياً، أو أكاديمياً، هو عن ماهية هذه الحرب وطبيعتها، وأسبابها، وسبل إنهاءها.
ذلك أن ما يجري في سوريا ليس حرباً أهليةً، وإن اتخذ الصراع في مراحل منه صيغ الحرب الأهلية، وهي ليست حرباً دوليةً أيضاً، وإن وجدت عدة أطراف إقليمية وعالمية فاعلة مباشرة، أو بالوكالة فيها، وهي فوق ذلك ليست حرباً مع/ضد الإرهاب، وإن وجدت تنظيمات إرهابية، وقامت الولايات المتحدة بتجريد تحالفٍ دوليٍ للقضاء عليها.
ما الذي يجري في سوريا إذن؟ أو ما هي طبيعة الحرب الدائرة فيها؟
ليس من قبيل النوستالجيا، ولا من منطلق العناد والمكابرة، ولا من باب الحديث الرغبوي، أن نكرر الآن وبعد مرور ما يزيد على ثلاثة أعوام، القول أن ما يجري في سوريا هو ثورة، ذلك أن الصراع الأساسي كان بين طرفين رئيسين هما: الشعب والنظام، أو المجتمع والسلطة، بين مهمشين ومستضعفين ومستبد بهم، وبين طغمة سياسية، أمنية، اقتصادية، وهذان الطرفان لم يسقطا، ولم تتبدل مواقعهما أو موازين القوى بينهما، ولم تتغير مصالحهما وتوجهاتهما، ولم تتقارب، ولم تنقضِ علائقهما الصراعية، وكل ما حصل هو أن الشكل العام للصراع، وأدواته هي التي تغيرت، فتحول الصراع من الشكل السلمي إلى الشكل المسلح، كنتيجة طبيعية لجملة من العوامل والظروف الموضوعية، وفي سياق التطور الطبيعي للمسار التاريخي ــ الاجتماعي للواقع السوري، قبل وخلال مراحل الثورة، وهو ما جعلها تصل إلى مرحلة الاستعصاء الحالي (ثورة/حرب).
أسباب هذه الثورة/الحرب، كانت بالأساس تراكم جملة من العوامل السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية، تمثلت في مجتمع ذي ثقافة عربية ــ إسلامية، مركب ومتعدد الطبقات والطوائف والإثنيات، متخلف اقتصادياً واجتماعياً، ويعيش حالة تأخر تاريخي، تفتقد جماعاته للكثير من الإجماعات الوطنية، يفتقر للسيادة، ولازالت أجزاء من أراضيه محتلة، محكوم من قبل سلطة عسكرية انقلابية، نسجت نواتها الصلبة روابط عائلية، طائفية، أمنية، وتحالف مصلحي مع رأس المال، اعتمدت خطاباً أيدلوجياً ديماغوجياً قومياً، وعززت سلطتها بمجموعة تحالفات، وقد قامت هذه السلطة بمصادرة المجال العام، وإنهاء الحياة السياسية، وانتهجت سياسات اقتصادية ــ اجتماعية، أدت إلى سحق المواطنين.
في مرحلة حكم ‘‘الأب’’ تفوق العطش للقوة والقمع على التعطش للنهب العام، بينما تغلب التعطش للمال والثروة في مرحلة ‘‘الابن’’، وهذا ما دفعه إلى إجراء تحول نحو اقتصادٍ مختلفٍ، وبطبيعة الحال لم يكن السوق الحر، ولا عبر انتهاج سياسات ‘‘نيوليبرالية’’، بل كان اندفاعاً مجرداً ومحموماً نحو الهيمنة على الموارد والثروات، لذلك جرت خصصةٌ ‘‘غير معلنةٍ’’ واحتكارٌ للقطاعات الأساسية من قبل العائلة، ورجال الأعمال المحيطين بها، وفتح باب الاستثمار أمام الدول والجهات التي تحظى بقبولها، وزاد ذلك السوريين بؤساً، وتهميشاً.
عندما اندلعت شرارة الربيع العربي، استشعر السوريون الأمل بالخلاص، وفي لحظةٍ عفويةٍ ودون تخطيطٍ أو تحضيرٍ مسبقٍ، أطلقوا ثورتهم الخاصة لإسقاط النظام، ثم تطورت الأحداث على النحو المعروف، والمستمر حتى الآن.
لم يكن تحول الثورة نحو العنف أمراً مستغرباً، بل كان مفهوماً باعتباره استجابة منطقية لما فرضه الواقع، والثورة بالأساس هي فعل هدمٍ عنيفٍ، والكثير من ثورات العالم توسلت السلاح، هذا لم يقلل من أهميتها، ولم يبدل جوهرها، وإنما غير مظهرها الخارجي، وضاعف من أكلافها، وآثارها الجانبية، وزاد المدة المطلوبة بعدها لإعادة الاستقرار.
كان من الطبيعي أيضاً، أن يتولد عن الصراع الأساسي بين الشعب والنظام، صراعات فرعية متعددة، أما ‘‘الإرهاب’’ الذي كان سابقاً الثورات بوجوده، فقد ساهمت جملة ظروف محلية، وإقليمية، ودولية في إفساح المجال لتستغل قواه الوضع، وتحاول تسيد المشهد بقوةٍ ووحشيةٍ.
والآن صحيحٌ أن تشكيلات العنف، والقتل، والإرهاب تتصدر المشهد، وتحتل المساحة الأوسع من الاهتمام والتغطية، وصحيح أن مئات آلاف المواطنين قتلوا، والملايين شردوا، والاقتصاد دُمر، لكن ما ليس صحيحاً مسائلة الحرب عن ذلك، فمن قتل، وشرد، ودمر، وتسبب في كل ذلك إنما هو النظام، ولا يجوز اختصار الصراع بالعنف، وقصره عليه، ذلك أنه لا يعبر عن حقيقة الصراع، وجوهره، فهو شكله الخارجي والآني فقط، فيما تبقى الأسباب، والدوافع الحقيقية كامنة خلفه.
محاولة تجهيل الفاعل، والتعامي عن حقيقة الثورة/الحرب، وأسبابها الجوهرية لن تقود إلا إلى زيادة حالة الاستعصاء، وتعقيدها، ومن هنا يمكن القول أنه لا قيمة لأية مبادرة، أو تسوية دولية يتم الوصول إليها، طالما أنها تتجاهل الحقائق، وتتعامى عنها.
فالثورة/الحرب لن تنتهي إلا بالوصول للحرية، والكرامة، والعدالة، والمحاسبة، والنظام الوطني الجديد.