افتتاحية بقلم إبراهيم الأصيل *
وصل الفيلم الوثائقي عن القبّعات البيضاء إلى المكان الذي يتمنّاه فريق كل فيلم، وحصل على جائزة الأوسكار. تكريم رمزي أثلج صدور السوريين والمتعاطفين معهم في أرجاء العالم. الفيلم من أربعين دقيقة، ويحكي قصة متطوعي القبعات البيضاء، وهو اسم لمنظمة الدفاع المدني السوري التي تأسست في عام 2014 وتضم بين صفوفها قرابة ثلاثة آلاف متطوع ومتطوعة، يعملون في عدّة مناطق خارجة عن سيطرة النظام في سوريا، لإنقاذ وإسعاف الناس بعد الهجمات والضربات الجوية والقصف المدفعي. القبعات البيضاء حازت على شهرة كبيرة وصلت لترشيحهم لجائزة نوبل للسلام العام الماضي، وحصولهم على جائزة الأوسكار للفيلم الذي يحكي قصتهم نجاح كبير. ولكن ما الذي يمكن أن نقرأه في هذه التجربة؟
أهم ما يتبادر للذهن هو قدرة الفن على التأثير. يتعاطف البشر مع الفن بشكل كبير لا يمكن أن نقيسه بالأرقام. صورة معبّرة، أغنية، لوحة، فيلم، أو مسرحية، كل ذلك قد يوصل رسالة ما إلى أكبر عدد ممكن من النّاس، باختلاف مشاربهم ولغاتهم وأديانهم وبلدانهم. القضية التي ندافع عنها هي الأساس، ولكن شرحها وإيصالها للغير يحتاج لقدر كبير من الإبداع والمثابرة، ولا يكفي أن تكون القضية على حق، أو يقدّم المدافعون عنها تضحيات لا تُحصى لتصل أصواتهم إلى غيرهم. الوسيلة ضرورية، وإتقانها لا غنى عنه.
بالإضافة لذلك، تبسيط الرسالة ضروري. وهنا لا أريد أن أن أتكلّم عن الفيلم فقط، وإنّما أيضاً عن رسالة رائد الصالح التي أرسلها لتتم قراءتها إذا ربح الفيلم الجائزة. رائد الصالح هو رئيس القبعات البيضاء، ولم يتمكّن من السفر لحضور الحفل، فكتب رسالة بسيطة، أهم وأجمل ما فيها، آية من القرآن هي شعار القبعات البيضاء {ومن أحياها فكأنّما أحيا النّاس جميعاً}. قام مخرج الفيلم بقراءة رسالة رائد الصالح، أمام المئات من أشهر ممثلي ومخرجي العالم في حفل الأوسكار، الكل وقف باحترام وصفّق بعد رسالة الصالح.
ما أحوجنا في زمن أصبح اسم «داعش» أول ما يتبادر للذهن إذا ذُكر الإسلام أن نركّز على رسالة الإسلام العالمية بالمحبّة والإحسان للغير. عندما تكون الرسالة بسيطة وواضحة وتحمل معنى سامٍ وعالمي تفتح أبواب القلوب جميعها، وتحوز على إعجابها.
ولكنّ فوز الفيلم بالجائزة لم يكن مصادفة أو نتيجة لعمل أيام أو أسابيع، فوراء قصة نجاح فيلم «القبعات البيضاء» قصص متعدّدة لأشخاص كُثر عملوا بجد وإصرار لوقت طويل.
القصة تبدأ من فريق القبعات البيضاء أنفسهم، بشجاعتهم وإخلاصهم وتفانيهم اللامحدود في عملهم. بعدها يأتي العمل على الفيلم نفسه وإخراجه من فريق محترف ومبدع. بعدها يأتي موضوع التسويق والتواصل لعرض الفيلم في المهرجانات العالمية وترشيحه لمختلف الجوائز. كل ذلك كان ضرورياً، آلاف التفاصيل الصغيرة، والتخطيط والعمل المتواصل والدؤوب، ولولاها لما وصل الفيلم إلى المكان الذي وصل إليه.
في النهاية أود الإشارة أيضاً إلى أن العمل لم يكن سورياً خالصاً، وهذا ليس مدعاة للاستياء أبداً، بل على العكس، مدعاة للفخر. علينا أن نبحث عن حلفائنا؛ عمّن يؤمنون بما نؤمن به ويسعون لما نسعى له. كل الأفلام يعمل عليها أناس من مختلف الجنسيات. أبطال فيلم القبعات البيضاء هم متطوعو الدفاع المدني السوري، والقصة هي قصتهم، والنجاح نجاحهم، ولكن أيضاً ما كانت لتصل إلى هذا العدد من النّاس وما كانت لتُسمع وتُعرف لولا العمل مع جهات مختلفة.
تهانينا لمتطوعي القبعات البيضاء، ولفريق الفيلم، ولكل من عمل معهم وساندهم في عملهم وحملتهم. وتهانينا للسوريّين وكل من يؤمن بأن وراء كل ما يجري في سوريا تضحيات جسام وملايين القصص المُلهمة. والعمل بالفن والإبداع لنقل تلك القصص لا يقلّ سمواً عنها.
المعركة مع الاستبداد في ميادين الفن بالغة الأهمية، بذلك نوصل رسالتنا، وبذلك نتأكد ألا يكتب تاريخ ما يجري من أحداث في سوريا أتباع النظام وحلفاؤه. ربّما يجري الكثير من المعطيات في صالح النظام وروسيا في هذه الفترة، ولكن من قال بأن معركتنا هي معركة أيّام وتراب؟ ما زال أمامنا الكثير من العمل لتحويل ما جرى ويجري في سوريا لأعمال فنيّة وروايات وأفلام وأغانٍ ولوحات، فذلك ما يخلد في ذاكرة البشر، وذلك ما يدخل التاريخ، وذلك ما يغيّر مجرى المستقبل، وبذلك فقط نضمن أنّه وإن كان لهم جولة، فالعاقبة لنا، والمعركة في تلك الميادين بدأت للتوّ.
* الحراك السلمي السوري
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج