وجدت ذات مرة كتاباً صغيراً لونه أزرق جميل، ملقىً في مكتبة صغيرة في بيت جدي، ولفت نظري اسم الكتاب، “ممو زين” وكنت في مطلع عقدي الثاني، مراهقاً صغيراً تشده قصص الحب الذي كنت أبحث عنه، وكان الكتاب يروي واحدة من تلك القصص تدور أحداثها بين شاب وفتاة في جزيرة بوطان الواقعة في كردستان في أرض تتوسط سوريا والعراق وتركيا. قالت مقدمة الكتاب إنها قصة من التراث الشعبي للجزيرة، وقد ترجمها إلى العربية بأسلوب بديع الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، نقلاً عن ملحمة صاغها الشاعر الكردي الكبير أحمد الخاني على شكل ملحمة شعرية حسب ما أذكر مما ورد في مقدمة الكتاب.
والقصة لا تعدو كونها قصة حب منسوجة بخيال شعبي لكنه خصب يعجّ بالتفاصيل والأحداث، وأكثر ما لفتني فيها يومذاك هو الحديث عن احتفالات الشعب الكردي في جزيرة بوطان بأعياده ومناسباته ومنها عيد النيروز، كما نقول عنه نحن العرب، أو النوروز كما يقول الأكراد.
تركت أحداث القصة في نفسي أثراً عميقاً كمراهق تشده قصص الحب التي يعاني فيها العاشقان الأمرين وتنتهي غالباً بموتهم قبل أن يثمر حبهما، مالبث أن زال بعد بضع سنين. كانت القصة تعجّ بالأحداث القاسية والحزينة؛ فقد عانى العاشقان كثيراً، ومرا بظروف قاسية سببت لهما الألم والدموع، لكنها -وبالمقابل- كانت تعجّ بالألوان والاحتفالات التي بدت لي غرائبية جداً وكأنها تأتي من كوكب آخر. لم أدرك يومها أن هؤلاء القوم الذين يتحدث عنهم الكتاب كانوا يشاركونني ذات المساحة الجغرافية التي شكلت الوطن بالنسبة لي، ولم يخطر ببالي أن هذا ممكن. فالأكراد سوريون مثلي، وكنت أحسب أنهم عرب أيضاً، وأن كلمة كردي لا تختلف عن كلمة حلبي أو فلسطيني، والذي كنت أعتقده أيضاً أنها لا تختلف عن الحمصي أو الحوراني! وربما خلت أن هذا الكتاب يتحدث عن شعب عاش منذ زمن، وأن هذه التقاليد لم تعد موجودة أبداً.
تتحدث القصة عن احتفالات تعجّ بالألوان والملابس والعادات والطقوس، وقد تكون فيها بعض المبالغة، إلا أنها بدت جميلة جداً، وكان بعضها عن عيد اسمه النيروز، كنت أسمع به لأول مرة حينها، ولم أسمع به كثيراً بعد ذلك، إلا عندما أصبحت في الجامعة وبدأت أتردد على مدينة دمشق بشكل يومي، وأعرف أكثر عما كان يدور فيها. كنت أقارن هذه الاحتفالات التي أقرأ عنها في الكتاب بتقاليد الأعراس في قريتي، ورغم الاختلاف الكبير بينهما، إلا أن احتفالات قريتي كانت هي المرجعية الوحيدة التي يمكن لي أن أفهم من خلالها مثل هذه الطقوس الجميلة الشعبية والمنمقة في آن معاً.
في تلك الأيام العصيبة التي مرت على سوريا، كان البعث قد تمكن من فرض قبضته على البلاد، بعد أن تمّ قمع التمرد الذي حصل في حماة وحلب وأجزاء أخرى من سوريا، وبدأ “الأب القائد” -كما كان يشار إليه في أدبيات اتحاد شبيبة الثورة الذي وجدنا أنفسنا بين ظهرانيه- يتخذ صورة الإله الذي لا يقهر، وبدأت سوريا الأسد بالتشكل، وبدأ اللون الواحد يسود كل مناحي الحياة والثقافة، من شعر وغناء، وبدأت أغانٍ جديدة تشق طريقها إلى المدارس والجامعات وُيكرَّس الشعر لمدح قائد الوطن، وغابت وراء صورة الطاغية وتماثيله كل تفاصيل الحياة الآخرى، وبينها كل فرصة يمكن أن تتاح لمراهق في عمري ليعرف ما ينبغي له أن يعرف!
هكذا بدأت حياتي وحياة أجيال كاملة في ذاك الوطن الحزين. ناضلت بعدها لسنوات لأتخلص من هذا الإنسان، ولم أفلح بالتخلص منه بالكامل، ولا أعرف إنساناً استطاع ذلك، وهو ما يعزيني.
كنا جميعاً نعيش في دولة الاستبداد التي لم أكن أعرف حقيقتها حينذاك، وكانت كل الاحتفالات تقتصر على ما هو مرتبط بالحزب الحاكم، والثورة المجيدة والأب القائد. وحرمنا كل ما يمكن أن يزين حياتنا بالفرح الحقيقي والألوان الزاهية وقصص الحب وشعر الغزل والغنى الثقافي الذي يميزنا في سوريا، وكان علينا جميعاً أن ندعي أنه غير موجود بدواعي الوحدة الوطنية، التي لم تكن إلا حقيقة، وأصبحنا ما نحن عليه اليوم.