أحمد تي / الغوطة الشرقية
سكن جسد معروف، سكنت عروقه وشكوكه وأسئلته وسكن الجوع فيه، هزيل نحيل.. ووحيد، تدلى من سقف غرفته بعد أن أزاح الخزانة الخشبية الصغيرة إلى منتصفها كي تكون أخر شيء تطأه قدماه، سلك الهاتف حول عنقه ملفوفاً لمرتين، وقطع منه كبلت يديه خلف ظهره، ترك نفسه هكذا كرسالة لا تحمل عنوان المرسل إليه، لكنها للجميع، لكل من يهمهم الأمر وقد لا يهمهم، تكتشف الزوجة مع أطفالها الثلاثة أن الأب يتدلى من سقف المنزل مذ غادروه ذات مساء كي يأكلوا بعضاً من طعام في زيارة أختار موعدها بحذر.
صاح الجيران قتل نفسه.. !، صاح رجال الجنائية بل قُتل غدراً وهذي يداه تشهدان بذلك، صاحت أمه ولدي مات مشنوقاً بخوفه، بكى الصغار وصمتت الزوجة ثكلى بين أبنائها وجيران لا يسكتون.
القتل الأول: انتحر
سنفعلها جميعاً فدعكم من اللوم، أي أب سيراقب أطفاله جياعاً صيفاً وشتاء، صباحاً مساءً، ليلاً نهاراً، لن يقوى على الانتظار أكثر، سيختار سلكاً غليظاً لا ينقطع، ولا يحتاج لواحد يحمل كل الوزن، فلا وزن له اليوم، سيقرر وهو يتلو للمرة الأخيرة اسماء أولاده أن يريهم جثته بدلاً من ضعفه، سيقرر أن يتدلى قليلاً من سقف غرفة المعيشة بدلاً من أن يكون في زاويتها يحلم بكسرة خبز، وماذا الآن؟ الآن صمت، لأطفاله إله لن ينساهم أكثر فهم اليوم يتامى، وله هو مغفرة من عند ربه ستحمل له بعضاً من أمله، زوجته ستفهم غداً ما حدث، وستشرح للأطفال ما حدث، سيفهمون؟ ربما، إذا استمر جوعهم سيفهمون، لكنه هو المنتحر اليائس يتمنى لو أنهم لن يفهموا أكثر كي لا يجوعواً أكثر.
القتل الثاني: الجريمة
أي أب يكون الذي يترك في عيون أطفاله جثة معروفة لهذه الدرجة، أي أب يعلق نفسه بنفسه ويمنع حتى يداه من مساعدته ساعة الموت الأخير؟ لن يسامحه الله ولا عباده الصالحون والطالحون، لن تغفر ابنته مهما حاولت كيف هشم أب صورته في بالها لأنه قرر الرحيل عنها بأبسط طرق الهروب، لمَ لم يقاوم ليوم آخر.. لعام آخر.. لموت آخر؟ ستنجو هي وتكبر وتأكل، لكنها لن تعرف كيف للموت أن يكون دقيقاً جداً في جسد أبيها؟ ستبكيه اليوم، ستشتمه غداً، ستنساه بعد غد وتكمل.
القتل الثالث: الغدر
حسناً، كيف له أن يكبل يداه ويشنق نفسه في ذات الوقت من عمر الجوع، هو حتماً قتل عن سابق جوع وعطش وترصد، هو ضحية لقاتل مجهول، قد يكون الأسد من بعيد، وقد يكون العنصر من قريب، قد يكون عابراً حاقداً يتسلى ببعض الألم، وقد تكون الفاقة صارت رجلاً يحمل لؤماً ويحرض على الموت القديم، قد يكون انعدام الأمل بزي أمير حرب قصير، لكنه أياً كان قاتله. ضحية نفسه التي قتلته، الجوع بريء من دمه، فلم يلتصق بطنه بظهره بعد، في عينيه ماء وبعض من تعب ولم يتوقف الدم، الجوع يقتل بعد أن يمحي كل الجسد رويداً رويداً، هذا جسد صحيح النسب، لا عيب فيه إلا بعض من عتب، هو لم ينتحر، هو قتل ولا داع لمعرفة الجاني الأن.
هو:
أنا لم أمت اليوم، أنا مت منذ زمن طويل، منذ أن اعتدت رائحة فمي الكريهة متّ أول مرة، منذ أن سمعت للمرة الأولى ابني يناديني: “جائع أنا يا أبي”، مات شيء ثان فيّ، منذ ظل أطفالي مستيقظين وجائعين ولم يناموا إلا حين وعدتهم بطعام لا سبيل لي إليه، حينها التف الحبل حول عنقي وخنقني، فقدت حينها بعضاً من لحمي ولن يعود، منذ أن كان نفق، منذ أن فتح نفق، منذ أن أغلق نفق، وأنا اشنق نفسي كل ليلة، أتدلى وأرتاح، ويرحل عني الجوع، منذ أن بكيت وحدي في كل طريق سلكته أبحث عن رغيف، قتلت، منذ أن شاهدت نفسي أذوب، انتحرت.
الوصية:
لا تسامحوني أبداً، سامحوا قتلتي الذين يحملون ألف وجه ووجه واسم، سامحوا أو لا تسامحوا كل من ساعدني في لف الحبل حول رقبتي ومضى دون اعتذار، ولا تدفنوني في قبر صغير، فليكن كبيراً لا سقف له، فلقد تعبت الحصار، لقد قتلني الحصار منكم جميعاً، كونوا بخير، كونوا في شبع، كونوا كما تكونوا وكما يجب أن يكون البشر.
