Site icon مجلة طلعنا عالحرية

أم سميح.. عندما “يكتب في يافا الليمون..”

 

تتهادى بنا السيارة (السوزوكي) وبالكاد تجد طريقها بين الحفر والأنقاض التي خلّفها القصف على حي جوبر في طرف الغوطة الأقرب لدمشق. القصف اليومي غير المنقطع أحال الحي أكواماً من الأنقاض، لكن بعضها مسكون! والطرقات أو الممرات تم شقّها أيضاً بين الركام والأنقاض.

ليس وقت الصلاة، لكن إمام الجامع كان بالانتظار على باب ما بقي من مسجده. يبادر السيدة الخمسينية التي تسوق (السوزوكي) بالسلام: “أهلين خالتي أم سميح.. الله يخلي لنا ياكي” فترد السلام وتطلب منه أن يساعدها بتوزيع ما معها لأن عندها التزامات أخرى.. وأيضاً لأن البرد لا يُحتمل.

حتماً، لا تجد أحداً في الغوطة الشرقية -من الفقراء خاصة- لا يعرف (خالتي أم سميح)؛ الناشطة المخضرمة التي ساهمت مع الشهيد أبو مرشد مدلل بإنشاء مؤسسة يد واحدة الإغاثية، تديرها وتقوم بكل الوظائف فيها، من الإدارة إلى المحاسبة إلى التصوير والتوثيق، التسويق والعلاقات، الرصد والمشتريات والتوزيع والتوصيل.. وقيادة (السوزوكي)!

أم سميح (فاتن أبو فارس) تحمل إجازة في الآداب من قسم اللغة الإنكليزية في جامعة دمشق، وعملت قبل الثورة بالترجمة، مهنة أبيها المولود في يافا في فلسطين.

تشرق أم سميح قبل الشمس، تصلّي وتقرأ ورداً.. تدعو طويلاً بالرحمة لأصدقائها الشهداء، وتدعو بالفرج لابنها سميح المختفي في سجون النظام منذ ثلاث سنين. سميح اعتقل قبل شهور قليلة من تخرجه من كلية الطب. قبل اعتقاله كان ناشطاً في تأمين الأدوية للمصابين والمرضى، وإقامة المشافي الميدانية لإسعاف جرحى المظاهرات الذين يطالهم رصاص قوات النظام والشبيحة.

مثل كل أمهات المعتقلين والمغيّبين، لا يسكت عنها ألم فقدان ابنها، ولا تملّ من تقصّي أي خبر عنه؛ “أين هو؟ وصلني أنه صار بالجوية! هل هو حيّ؟ يارا صبري قالت تحول لصيدنايا! هل سأعيش لأراه جراح أعصاب كما كان يطمح؟”!

نشطت أم سميح في بداية الثورة بالمظاهرات والاعتصامات، ثم تحوّلت للعمل الإغاثي ضمن مشروع صغير أطلقت عليه اسم (مطبخ أحرار السويداء) تقوم به بإعداد الطعام المطبوخ مجاناً للمحتاجين. وسبب التسمية أن صديقاتها من أهالي السويداء (تعرفت على معظمهن داخل المعتقلات) سألنها كيف يمكن أن ندعم الثورة ومدينتنا لازالت (هادئة)؟ واقترحن تقديم تبرعات مالية تقوم هي بتوصيلها للمستحقين في الغوطة الشرقية الثائرة. ولا يخفي الاسم الدلالة التي أرادت إيصالها على الوحدة الوطنية والشعب الواحد.

ثم اقتضى تطور العمل، وتوسعه ليشمل متبرعين آخرين (من مناطق وطوائف أخرى) أن تغير أم سميح الاسم إلى (مطبخ يد واحدة)..

ولما صار العمل يشمل نشاطات أخرى غير الطبخ استبدلت كلمة (مؤسسة) بكلمة (مطبخ)، واستمرّ المشروع رغم فقدان أم سميح شريكها وسندها الشهيد أبو مرشد مدلل، وصار اسمه: مؤسسة الشهيد محمود مرشد مدلل – يد واحدة.

تقدم المؤسسة التي تأخذ أم سميح فيها كل الأدوار الدعم للمحاصرين بأشكال تقليدية أو غير تقليدية: سلل غذائية، طعام مطبوخ، حليب الأطفال، تأمين أدوية وعلاج طبي، لوازم منزلية، كفالات أيتام (أكثر من 160 كفالة)، ملابس وبطانيات، حلوى وألعاب وحفلات ترفيهية للأطفال، قرطاسية للمدارس، حطب للتدفئة، سبل ومناهل المياه في الشوارع، صيانة البيوت المتضررة بالقصف، مبالغ نقدية..

وتدير أم سميح صفحة على فيسبوك تحمل اسم المؤسسة. تنشر على الصفحة ما تقوم به من أعمال بطريقة مبتكرة، وتصرّ دائماً على ذكر من تبرع بالمال بالاسم، إلا إذا طلب “فاعل الخير” أن لا يُذكر. ومع أنها ترفض تصوير المستفيدين من الإغاثة، لا يمتنع بعض زوار الصفحة العابرين عن انتقاد الرياء أو إذلال المحتاجين!

من منشورات الصفحة:

“14 تموز 2016 – قامت مؤسسة الشهيد محمود المدلل (يد واحدة) بتقديم لوح طاقة شمسية 6 أمبير وبطارية جل 100 أمبير لمركز الدعم النفسي للأطفال في حرستا.. حيث سيقوم المركز بحفلات 3 أيام أسبوعياً.. يتضمن الحفل بعض الأنشطة وتقديم بعض الحلويات”.

رغم ضيق حالها لا تردّ أم سميح أحداً، ورغم حزن ومكابرة مرسومين على سمرتها لا تعدم وسيلة لتقديم المساعدة أو لاختراع أسباب الفرح.. يصل بها (الهوس) أن ترى نشاطها القادم في منامها! فتقوم من النوم لتعطي الفرح شكل قالب حلوى بشموع وألعاب نارية يلتفّ حوله أطفال في روضة، أو تملأ سياراتها بألواح الثلج توزعها في الصيف على من عدموا الكهرباء والمال (وهل يشرب الفقراء ماءاً بارداً؟!) أو أن تنجح بتهريب علبة (نسكافيه) إلى داخل الغوطة تهديها لمدمن سابق حرمته سنوات الحصار من جرعته اليومية!

ليس من النادر أن تقطع الغوطة الشرقية في اليوم الواحد طولاً وعرضاً، لتصل أماكن لا يعرف أحد غيرها أنها موجودة، وفيها محتاجون. إذا مرّت -ولو مصادفة- بأحد الأحياء الفقيرة تجد الصغار والكبار من سكانها يتقاطرون ومعهم أوعية اعتادوا أن تملأها لهم أم سميح بالطعام والفرح.

أكثر ما تجدها في المناطق الساخنة، إذا اشتدّ القصف عليها.. ربما ذهبت من طريق صباحاً ثم انعطب أو خرج عن الخدمة وقت عودتها ظهراً.. لا تمشي بين الرصاص مثل أم سعد بطلة قصص مواطنها غسان كنفاني، وإنما بين القذائف.

مشهد: (أيضاً ليس من رواية أو فيلم وإنما من أحد أيام أم سميح):

أثناء الاقتتال الداخلي بين فصائل الغوطة، اعتبر كل فصيل تمركزه في منطقة ما يعني امتلاكه لها، فسورها بحواجز وسواتر ترابية. العناصر عند السواتر اعتذروا من أم سميح؛ فالأوامر لا تسمح لأي سيارة بالعبور. انتهت المفاوضات. وتمّ نقل حلل الطعام المطبوخ يدوياً فوق السواتر الترابية والدشم التي أقامها الإخوة بين بلداتهم. تركت أم سميح سيارتها على طرف الساتر الغربي في حرستا واستعارت سيارة (سوزوكي أيضاً) من أمام الساتر الشرقي في دوما، وتابعت طريقها. ولم تنسّ أن تسكب للعساكر على الحواجز طعاماً أطيب من مخصصاتهم المعتادة!

مشهد:

وبينما الحرب بين فصائل الغوطة على أشدّها، تطالع على صفحة (يد واحدة) منشوراً بلغة شاعرية لا تنسجم مع الواقع الكارثي الذي خرج منه المنشور: مقطع مصوّر بموبايل أم سميح لماعزين صغيرين يرتعان على المرج، يرافقه تعليق بصوتها: “ولادة أنثى الماعز الثانية، جدي وسخلة جميلين.. مبروك والحمدلله على السلامة”!

جديدها (طبخات نوعية) كما تسميها؛ رأت أم سميح أن المطابخ الخيرية انتشرت أكثر مما ينبغي، وغياب التنسيق يؤدي لغياب الترشيد، فلم يعد غريباً أن ترى الأكل المطبوخ مرمياً في حاويات الزبالة، رغم وجود جياع ربما في حي مجاور. ومعلوم أن كل ما هو معروض من الإغاثة لا يسدّ الطلب. فترد أم سميح بإعداد أطباق من (المشاوي) أو (كبة لبنية) أو غيرها من الأكلات (الفاخرة) لعدد من أكثر العائلات عوزاً.

وللأسباب نفسها بدأت بأعمال (تمكين المجتمع)، مثل تأمين رأسمال لمشروع صغير، أو شراء ماكينات خياطة لورشة في كفربطنا ستعمل بها زوجات لشهداء أو معتقلين؛ مما أُنجز فعلاً: بسطات بنزين وبقاليات صغيرة ومحلات لبيع القرطاسية (تشتري بنفسها القدور والمكاييل والبضاعة وكل اللوازم) وبدأت بمستفيدين شباب عندهم بتور في الأطراف. وبينهم امرأة أيضاً من ذوي الاحتياجات الخاصة.

تحب أن الجميع يناديها “خالتي أم سميح” حتى النساء أو من هم أكبر منها سنّاً. وتزعل ممن ينتقد ارتدائها للبنطال، ينتقدونه ليس لأنه غير محتشم، وإنما لأنه بنطال، أو لأنها امرأة، أو لأنها امرأة تقود سيارة (سوزوكي) أو لنقل لأن نشاطها يذكرهم كم هم صغار وعاجزون. ثم لا يمنعها زعلها منهم أن يكونوا من المستفيدين من أعمالها!

مشهد:

ليس أحد محبيها، وإنما أحد المحققين في فرع الخطيب يلكزها ويصرخ هازئاً: “عاملة حالك الأم تيريزا؟”!

أم سميح ظاهرة، وليست فقط حالة أو قصّة دأب ونجاح؛ بحضورها تتكثّف معاني الإنسانية والتضحية؛ العطاء وحب الخير، حب الفقراء والضعفاء والمستضعفين، الغيرية والعزة.. فلسطين والقضايا المخذولة.. وقيم نبيلة أخرى تغري كثيرين باستثمار سياسي (أو تلميعي) إن حسبوها على أحزابهم أو تياراتهم. تدرك هذا لكنها تترفع، وترفض الاستثمار في سجل شخصي حافل، من بين ما يتضمنه ثلاث اعتقالات في الثورة، ونضال نسوي مهم قبل الثورة أو مع التنظيمات الفلسطينية..

من المعتاد أن تغيب الشمس عن أم سميح وهي في مقبرة البلدة، تقرأ الفاتحة وما تيسر على أرواح شموس وكواكب غربت عنها، تسقي الزرعات على قبر أبو مرشد وتخصّه بالعتاب: رفيقي.. لماذا سبقتني؟!

Exit mobile version