نبال زيتونة
هناك في البلدة البعيدة القريبة، مازلت أراها، أعوامها الثمانون تدرّج على مداخل الدار الكبيرة الواسعة، متفقّدةً أحوال الأبناء والأحفاد، متوجّسةً شرّ عصابةٍ خبرتها على مدى نصف قرن من الزمان، ولمست بؤسها وحقدها الذي تجلّى بأبشع صوره على مدى سنوات الثورة اليتيمة.
هناك كانت أمّي، ككلّ الأمهات، وهناك أمضت ردحاً من عمرها تحرس الغياب، غياب الأبناء في زمن الذلّ والبحث عن موارد الرزق في طول البلاد وعرضها. واليوم، في زمن المداهمات لعناصر تلك العصابة الحاقدة، أمّي تحرس قبيلة من الأبناء والأحفاد، تحرس حيّاً تناثر قلبها على جنباته. أمّي تسهر الليل على المداخل، وتتابع أخبار الأولاد وتحرّكاتهم من بعيد، هي التي اعتادت في زمن مضى ألا تتدخّل في شؤونهم، لكن اليوم، الأمر مختلف تماماً، فالبيوت عُرضةٌ للمداهمات، والشباب في مهبّ الموت والاعتقال والتغيّيب والتعذيب!
أذكر ذلك اليوم، كيف استجمعتِ سنواتك الثمانين، لردّ كيد البندقيّة، كيف أمسكت بها مصوّبة إلى صدرك، محشوّة بغدرهم، لحماية أحفادك. أذكر كيف أصابهم الذهول، وعجزوا عن مداراة الموقف، ليس بدافع إنسانيتهم بالتأكيد، إنّما لأوامر بعدم إطلاق النار في تلك البلدة، وفي ذلك الوقت المبكّر من عمر الثورة.
أتذكرّك يا أمّي في حافلة نقل الركّاب، على حاجز “الكبّاس”، كيف انتزع عنصر النظام “الساندويش” من يد طفلك الجائع مع بداية الحصار على الغوطة الشرقيّة، رأيت قلبك يتناثر على إسفلت الشارع بعد أن رماها ذلك العنصر على الأرض، وداستها أقدام العسكر، احتقنت روحك بالصراخ من ذلّ وألم، لملمتِ بقايا طفلك إلى صدرك، وأنت تدركين أنّ الأمومة امتياز مليء بالألم، حينها سمعتْ صراخَك السيّدةُ العذراء، فاستمرأت مرارتها.
أتذكرّك يا أمّي على مداخل فروع الأمن، لا يهمّك الشتم والإبعاد، تتطاولين على الجرذان المتسلّحة المرصوصة على طول الطريق، لمعرفة خبر عن ابنك، لم تخبركِ الربّة إيزيس عن رهبة العالم الآخر وظلماته، ومخاطر الطريق إليه، لكنّك آثرت الرحلة وحيدةً، إلاّ من أمومتك والأمل. وكنتِ هناك، تحملين شيخوختك والعصا، تطوفين خلف المظاهرات السلميّة لحماية أبنائك، كلّ أبنائك الخارجين من “قمقم” الذلّ المهين. لم تكن عصا الساحر، كما لم تكن عصا موسى المخلّص، التي شقّ بها البحر ليعبر قومه، كانت عكّازة آخر العمر، التي تعينك في سنواتك الأخيرة مشفوعة بأمومتك الطاغية على كلّ مقدّسات الأنبياء والرسل.
رأيتك هناك، تحرسين البيوت التي غادرها أبناؤك في زمن القصف المُمطِر على البلدات والقرى، يتّسع حضنك ليتماهى مع الأرض والقمح والتراب، وتمتدّ يدك الحانية تلملم ما تبقّى من حياة في انتظار عودة الغائبين.
أتذكّرك تحملين “الشحاطة” وتضربين عناصر الأمن الذين داهموا بيتك في منتصف الليل لاعتقال ابنك، لكنّ أمومتك لا تنام، ولم يكن لديك سلاح يوازي همجيّتهم. يا أمّاً لا تعدم وسيلة لحماية أبنائها. وهناك كنت مشبوحةً ومعلّقة في زنازين الطغاة، لأنكِ اعترفتِ على نفسك بإدخال حليب الأطفال إلى “داريّا” المحاصرة، لتخليص ابنك من التهمة الموجّهة إليه، فكان احتمال الألم الجزءَ الأهمَّ من أمومتك، أنت المقدّسة التي تتجرّع الألم خلاصاً للأبناء.
من ينسى صورك في الحصار، على امتداد مدنٍ وبلداتٍ بحجم عهر هذا العالم ومدى نزيفه الأخلاقيّ، زرعتِ حطام البيوت ليقتات أبناؤك، غضبتْ “ديميتر” آلهة الطبيعة والنبات عند الإغريق، لتجدبَ الأرض، أمّا غضبك فأخصب قوتاً لأبنائكِ الجائعين. ومن ينسى وقع خطواتك على دروب اللجوء، تهزّ ضمائر من لا ضمائر لهم، تحملين متاعك الرثّ وحفنةً من صغار، جُدتِ عليهم بأمومتك الحانية تنتظرين رحمة ربّ طالما انتظرتها!
لم تكوني “ديانا” الرومانيّة، أو “أرتيمس” الإغريقيّة آلهة الصيد وحامية الأطفال، ولم تحملي قوساً ولا جعبة سهام، كنتِ الأمّ السوريّةَ العظيمة بعذاباتها وموتها وألمها والحياة.
وختاماً أتمثّل قول الكاتب اليونانيّ “ديمتري أفييرينوس”: (مقدّسةٌ كلُّها، حجراً حجراً، هذه الأرض كوخٌ لآلهةٍ سكنت معنا، نجمةً نجمة، وأضاءت لنا ليالي الصلاة، مشينا حفاةً لنلمسَ روحَ الحصى، وسِرنا عراةً لتُلبِسَنا الروحُ، روحُ الهواءِ نساءً يُعِدْنَ إلينا هِباتِ الطبيعةِ).
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج