الجزء الرابع من قصة أمل.. قصة حقيقية من القلمون السوري
مريم الحلاق
استكانت أمل في بيت زوجها المرحوم ترعى ولدها وما آل إليها من أراضٍ وكروم، إلى أن أصبح عمر أحمد تسع سنوات. حينها فوجئت بأبناء عم المرحوم يطالبنها بالعودة إلى دار أهلها، وترك أحمد في رعايتهم، فقد تجاوز مرحلة رعاية أمّه وهم أوّلى برعايته وبمردود رزقه الذي ورثه عن أبيه!! ووافق كبار القرية على هذا الاقتراح، فهذا هو العرف، وهذه هي العادات، وأحمد -وفق العرف- ينتمي لعائلته من أبيه.
عادت أمل لبيت أهلها حزينة مُستسلمة لقدرها ونصيبها، وكان قرب بيت ابنها أحمد من سكنها يخفّف عليها لوعة البعد عنه، فقد كانت تراه في كل يوم.
بضعة أشهر مرّت على أمل تذهب فيها كلّ يوم لترعى ولدها وتنظّف داره، وتعود لرعاية والدها المريض ومساعدة والدتها في شؤون الدار. إلى أن فوجئت أمل عند عودتها في أحد الأيام بابن خالها الأرمل الذي توفيت زوجته وتركت له ولدين بأنّه يطلب يدها من والدها، ووالدها يأخذ رأيها في ذلك!
أسئلة كثيرة دارت في خلدها، هل تتزوج للمرّة الرابعة؟ هل تستطيع تربية أولاد زوجها وتترك ولدها لأهله؟ هل؟ وهل..؟ وأخيراً قرّرت الموافقة، وانتقلت لبيت زوجها الرابع، وهي في السادسة والعشرين من عمرها. هناك، في ذاك المنزل أنجبت أمل من زوجها الشيخ محمد صبيّان وبنت ربتهم مع أخوتهم لأبيهم مصطفى وخديجة.
لكن حظّ أمل البائس لم يفارقها أبداً؛ فها هو زوجها الرابع الشيخ محمد يفارق الحياة بعد مرضٍ أنهك قواه وجسده، ليتركها وحيدة مع أولاده الخمسة، وهي في الخامسة والثلاثين من عمرها.
لكن أمّل التي عذّبتها الحياة منذ نعومة أظافرها تعلّمت كيف تعيش وفق الأعراف والتقاليد، صمتت وعاشت بصمت تربيّ الأولاد الذين كبروا مع الوقت وأصبحوا شباباً، وتزوجت البنتان، وسبقهم إلى الزواج أخاهم الكبير أحمد.
الموت الذي كان مرافقاً لحياة أمل لم يمهلها فرصة لالتقاط أنفاسها؛ فبعد وفاة أزواجها الأربعة فقدت أمل الحزينة أبناءها الشباب واحداً تلو الآخر. أحمد، ولدها البكر من زوجها الثالث، وحبيبها عبد القادر توفيّ عند سقوطه من الطابق الرابع أثناء عمله في السعودية، وكان شاباً في الثامنة والثلاثين من عمره. بعده بعامين توفيّ ولدها عبده حين تلقى ضربة من أشعة الشمس الحارقة حين كان في المدينة المنورة، ووريّ ثراها الطاهر، وكان شاباً كذلك، حتّى أصغر من أخيه أحمد، إذ توفي في الثلاثين من عمره. أمّا أصغر أولادها محمود فقد لقي حتفه حين طلبت منه قريبة له أن يجلب لها سوارها الذهبي الذي سقط منها في بئر الدار. نزل محمود إلى البئر وكان الماء فيه مرتفعاً، والظلام حالك، طلب من الأهل المتحلقين حول فتحة البئر إنزال إنارة فناوله أحدهم مصباحاً متصلاً بالكهرباء وحين أمسكه سرت الكهرباء في جسده. صرخ وسمع الناس صوت سقوط جسده في البئر! كان في السابعة والعشرين من عمره حين توفي.
هكذا توالت أيام أمل، وصبغ الموت علامته في مفارق حياتها، حتى لم يترك لها سوى ابنتها زينة، التي احتضنتها وقضت معها سبع سنوات في لباس أسود، منذ وفاة الابن الأكبر أحمد.
ومبكراً بدأ المرض يفتك بأمل، التي أصيبت بمرضٍ أقعدها عن الحركة، ممّا اضطرّ زينة لبيع ممتلكاتهم في القرية والانتقال إلى الشام. هناك، في الشام، وكما عبد القادر وافت أمل المنيّة بعد عامين من انتقالها إليها مع زينة.
ماتت أمل في الستين من عمرها، بعد أن رافقها الموت لأحبائها منذ سنتها الثانية عشرة.
كثيرون يتساءلون في قريتنا حين يتذكرون ويقصّون حكاية أمل: هل كان لحياتها أن تكون على غير تلك الشاكلة؛ أن لا يحكمها الموت بهذه القسوة، لو لم تزوّج وهي في الثانية عشر لشيخٍ عجوز؟ هل قدّمها أهلها إلى بوابة الموت بتزويجها المُبكر من ذاك الشيخ الجليل؟!
وكيف كانت حياتها لتكون لو أمهلت فرصةً لحياة أخرى.. فرصة للحياة ذاتها؟!
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج