قصة حقيقية من القلمون السوري – الجزء الثاني
مريم الحلاق
بقيت أمل الأرملة ذات الاثنتي عشرة عاماً في بيت زوجها المتوفى إلى أن انتهت شهور العدّة الأربعة وأيامها العشر، ثمّ عادت الأرملة إلى دار أهلها، الذين استقبلوها بالحزن والندب على حظها التعس. وجاءت نسوة القرية لتعزيتها، وكلٌّ مُنهنّ تنتقي العبارات الملائمة لوصف أمل وحظها، حتى أنّ بعضهنّ طلبن الإسراع بتزويجها مُجدّداً؛ فهي أرملة وستجد ألسنة الناس في سلوكها -أيّاً كان- حديثاً عن شرفها. بل إنّ إحدى الجارات تطوّعت لتدبير العريس الذي يرضى بالاقتران بأرملة!
وقع الاختيار على الجار الزاهد الذي يُقيم في (صومعته) وهي غرفة صغيرة تعلو الدار، يَصعد إليها بسلمٍ خشبي متباعد الدرجات حيث يبقى هناك ليله ونهاره. وكان الجار لا ينزل إلا عند سماع صوت أمّه تدعوه للطعام أو ليذهب للصلاة في المسجد القريب من داره. قامت الجارة “أم خالد” بالوساطة وأقنعت أم العريس ومن ثمّ أم العروس, فتمّت الموافقة وجُهّزت العروس.
كانت أمل في الثالثة عشر من عمرها حين زفّت إلى زوجها الثاني المُلقّب بـ”الرَشِقْ” نظراً لرشاقة حركته. استقبلتها حماتها بزغرودة خجولة؛ فهي أرملة ولا تستحق أن يُقام لها عرس كالعذارى.
أمل لم تكن على معرفة بالعريس سابقاً، ولم يتقدم لخطبتها بشكلٍ شخصي، وهو العازف عن الزواج وعن متاع الدنيا، بل قامت أمّه بالتقدّم إلى والدتها التي سوّت الأمر مع والدها، وعند عقد القران لم يكن من داعٍ لوجودها، فأبوها هو وكيلها، وحين طلب الشيخ المخوّل بعقد القران سماع الموافقة من فم العروس أوقفتها والدتها خلف الباب الموارب وطلبت منها أن تجيب بنعم.
دخلت العروس الغرفة المُخصّصة لزوجها. كانت بسيطة في أثاثها، وقد وضعت ملابسها التي رافقتها من زواجها الأول في صندوق خشبي إلى جانب الجدار في صدر الغرفة. دخل عريسها الغرفة وكان في الأربعينيات من عمره، طويل القامة، امتزجت الشعرات البيضاء بلحيته السوداء والتي كانت قصيرة مقارنة مع لحية زوجها الأول، رحّب بها بكلمات خافتة، وأنجز مهمته وخرج ليستحم ويصعد إلى صومعته.
هكذا مرّت الأيام تعيش فيها أمل مع حماتها، وترى زوجها أثناء تناوله الطعام، ونادراً ما يزورها في المساء. كان “عبد القادر” الأخ الأصغر لزوجها قريباً منها أكثر، فقد كان يكبرها ببضع سنوات، تراه طيلة النهار يحادثها، ويطلب رأيها في بعض الأمور، يساعد والدته ويساعدها في أعمال الزراعة والبيت.
مرّت الأيام وبدأت حماتها بالتساؤل عن السبب وراء عدم حملها، فقد أصبحت في الرابعة عشرة من عمرها ومضى على زواجها عاماً كاملاً. ولكن أمل لم يكن عندها الجواب ولم تقتنع والدة زوجها بكلام “الداية” بأنّ أمل مازالت صغيرة.
ويأبى حظّ أمل التعس إلاّ أن يستمر.. تذكر أمل أنّها سمعت صراخ زوجها حين سقط من السطح على أرض الدار، فقد زلقت السلم به بعد أن وضع قدميه عليها بغية النزول، ولم يستطع تفادي السقوط، فكانت السقطة على رقبته، وأعلن الطبيب أنه أصيب بالفالج (الشلل).
عدة أسابيع مضت، لتعود أمل لثوبها الأسود ثانية ولتقضي شهور العدّة، وتعود بعدها إلى دار أهلها أرملة للمرّة الثانية، وهي في الرابعة عشر من عمرها.
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج