Site icon مجلة طلعنا عالحرية

أمل وزواجها الثالث

قصة حقيقية من القلمون السوري

مريم الحلاق

استقبلت الأسرة عودة أمل بالحزن والدموع والندب على حظها، فقد أصبحت أرملة للمرّة الثانية ولم تكمل ربيعها الرابع عشر، ولم تسلم من ألسنة نسوة القرية وثرثرتهن، وبدأن بالبحث عن عريس يرضى بالزواج من أرملة مات عنها زوجان!

(كعبها مدوّر) عبارة تطلق على من يموت عنها أكثر من زوج، وهكذا صُنّفت أمل التي لم تمضِ بضعة أسابيع إلاّ ودخلت حماتها السابقة طالبة يد أمل لابنها الثاني عبد القادر. فرحت الأم وأخفت أمل فرحتها، فهي ولأوّل مرّة تعرف عريسها قبل الزواج وترتاح له. في هذه المرّة الثالثة للزواج لم تكن بحاجة إلى (جهاز) وأثواب جديدة، وبالرغم من هذا فقد أصرّت أمّها أن تخيط لها ثوباً وألبسة داخلية جديدة، عدّة أيام وتزفّ أمل من جديد، للمرّة الثالثة، وقد بدأت عامها الخامس عشر بأمل وفرح.

لأوّل مرّة تشعر أمل أنّها عروس حقيقيّة، وتقبل على زوجها بحب ولهفة، فهو شاب وقريب من عمرها وتعرفه من قبل، وليس له لحية كثيفة بيضاء متيبّسة عجوز.

بدأت أمل حياة زوجية سعيدة، تجالس زوجها تحادثه وتمازحه، تضحك معه، تستمع إلى قصصه التي يسردها عن أحداث جرت في القرية وعن أشياء تشغله وواجب تنفيذها.

“مبروك حامل” هذه العبارة أدخلت الفرح على الدار وأهلها، فعلت زغاريد أمّها وحماتها لتعلن بداية أسرة جديدة؛ أسرة عبد القادر وأمل وولدهما. مرّت شهور الحمل، وبدأ المخاض، ودعت حماة أمل النسوة من أقرباء وجيران لحضور الولادة.

بدأت جميع النسوة بتلاوة ما حفظنه من سور القرآن الكريم همساً، ويشتركن بالدعاء لها جهراً. تمّت الولادة، وكان المولود ذكراً، ممّا زاد الفرح والارتباط بين أمل وعبد القادر، وأطلقت عليه جدته اسم أحمد، الجدة التي لم تحضر حفل طهوره حين كان في الثالثة من عمره، فقد توفاها الله قبل ذلك بعام.

بدأت مسؤوليات أمل تكبر؛ فقد أصبحت سيدة البيت منذ وفاة حماتها، وكانت رفيقة زوجها في رعاية الأرض من زرع وحصد، بالإضافة للاهتمام بابنها أحمد.

ست سنوات مرّت وأمل سعيدة، وقد ظنّت أنّ الحظّ العاثر قد تركها، لكنه كان يتربص بها. إذ دعي زوجها عبد القادر للالتحاق بالجيش العثماني أثناء الحرب العالمية الأولى، كان الخبر صاعقاً؛ فهي الحرب، ومن يذهب في “السفربرلك” لا يعود.

مرّت سنتان وأمل وولدها ينتظران سماع أيّ خبر عن عائدٍ من الحرب، لعلّه رأى عبد القادر ويطمئنها عنه، وجاء من يخبرها أنه شوهد في مشفى الغربا (الوطني) في دمشق.

أسرعت أمل إلى أهلها لتدبير أمر سفرها إلى الشام، استعاروا بغلاً من جار لهم، ووضعوا عليه السرج الذي ملأت والدتها جيبيه بالخبز والدبس وبضع قطع من البطاطا المسلوقة. ركبت أمل البغل وخلفها ولدها أحمد الذي أصبح في الخامسة من عمره، واتجها جنوباً إلى دمشق.

ثلاثة أيام قضتها أمل وولدها على الطريق تسير نهاراً وتنام في الخان ليلاً.

استطاعت الوصول إلى المشفى، ولكن الوقت كان متأخراً فلم يسمحوا لها بالدخول لرؤية زوجها وحبيبها ووالد ابنها. جلست على الرصيف، وبكت كثيراً جداً فهي لم تره منذ عامين، وها هو على بعد خطوات منها ولا تستطيع رؤيته.. أشفق عليها الحارس الذي يقف على باب المشفى وأخذها بالقرب من نافذة تطلّ على سرير زوجها، وقفت بعد أن تمالكت نفسها ونادته: يا عبد القادر أنا أمل ومعي أحمد.

كانت فرحة عبد القادر لا توصف، فهو لم يتوقع رؤية زوجته وولده، ولأنّه كان مصاباً وضعيفاً ولا يستطيع النهوض، فقد أسرع المرضى من حوله وحركوا السرير بحيث يستطيع رؤيتهما، ولكن قامة أحمد كانت قصيرة فحملته أمه ليتمسك بقضبان النافذة الحديدية، وليشاهد والده المريض، وكانت هذه المشاهدة هي كل ما يذكره عن والده!

سألته أمل عن صحته وإصابته، ووعدته بالعناية به حتى يشفى، فهي ستعود في الغد وتصطحبه إلى القرية ووعدها بانتظارها.

تركته قاصدة بيت خال لها في منطقة الشاغور، لتنام عندهم، وتذهب في الغد لتنفّذ وعدها لزوجها عبد القادر، ولكن القدر أبى إلاّ أن يفجعها بموته في تلك الليلة!

اصطحبت جثته إلى مقبرة “باب الصغير” حيث ضمّه ثرى دمشق، ولتعود إلى قريتها مع ولدها أحمد لابسة ثوبها الأسود، للمرّة الثالثة.

Exit mobile version