Site icon مجلة طلعنا عالحرية

ألغام العمل المدني في سوريا

مجلة-طلعنا-عالحرية-Rising-For-Freedom-Magazine

مجلة-طلعنا-عالحرية-Rising-For-Freedom-Magazine

عاطف عامر

في الشهور الثلاثة الأولى من عمر الحراك السوري، نيسان وأيار بشكل رئيسي من عام 2011، كان هناك منتدى اسمه “منتدى حياة حمص” على ما أذكر، كان الفيسبوك مازال جديداً وكانت إحدى مساحات التنفس في سوريا هي هذه المنتديات. المنتدى المذكور يضم أكثر من ألف شاب وصبية وأغلبهم طلاب وطالبات جامعيين، في الشهرين المذكورين بدأت الحوارات فيما بينهم تأخذ منحى تصاعدياً بتنوع المواضيع، حوارات عن الدين والعلمانية، عن الدولة المدنية، عن القانون وسمو القانون، عن الإصلاح الديني، معنى التنوير، الحرية، المستقبل، دور العلم والمعرفة، الفارق بين العلم الوضعي والعلوم الإنسانية الكبيرة، الكثير من النكات عن انتهاكات النظام، عن غباء وهمجية الجنود.. الخ، لم يكن هناك أي حوارات عن التظاهر أو ضرورة التظاهر أو الحالة السياسية.. وكأن تظاهراتهم هي يومياتهم التي ليست بحاجة للحوار.. كان مفهوم السلمية يسري في عروقهم تكتشفه بين الأسطر المكتوبة، كانت مصر وميدان التحرير قد صنعا وجدان المرحلة تلك.. كانوا وروداً وأكثر من ورود يخاف عليها أي متابع لهم، كانوا حلّاً، وكانوا جديداً في الفقر الصحراوي الذي مرّ على البلاد لأكثر من أربعين عام.. هذا حلّ بمعنى تجذير مقولات، المقولات التي ظهرت فجأة في السماء السورية كانت بحاجة لتجذير، لتبيئة، ولزراعة في الذهن..
كانت جنيناً يحتاج لهدوء النضج، والبعد عن مواجهة ستأكل الأخضر واليابس وتمنع كل نمو..
الحراك السوري العظيم في ذلك الوقت رفع شعارات هي مقولات للفكر أوجبتها الضدية مع النظام، النظام طائفي؛ نادى الحراك الشعبي أن الشعب السوري واحد وضد كل هوية طائفية، النظام عنده تراتبية للمواطنين، الناس طرحت المواطنة ودولة الحق وتطبيق القانون، النظام ناهب وحرامي، الحراك رفع الأخلاق كراية، النظام مستبد، الحراك نادى بالحرية..
نور الناسِ تحدّدَ بالضدية من ظلمة النظام، وهذه الضدية هي رد فعل، وكل رد فعل لا يمكن أن يكون متيناً.. والكل صار يعرف أن معركة النظام باتت هي تحويل نوْرِ الناس لظلمة تشبه ظلمته..
الناس امتلكت الروح الواجب والقادر على التغيير، الروح المشبعة بالحرية والحقوق، المشبعة باحترام الإنسان والوجود، لكن تلك الروح لم تصمد، تحت عنف النظام انتقلت بالتدريج لتشبهه.. لم تصمد تلك الروح لأنها تحددت بالضدية، ولم تكن مقولاتها مُتجذِّرة في عمق الناس وواقعها، المُتجذِّر هو ما ظهر فيما بعد؛ هو الهوية الطائفية، هو الإيمان بالعنف كحلّ، هو الاستغلال واصطياد الفرص “وملف المعارضة الخارجية على سبيل المثال مليء باصطياد الفرص والانتهازية”..
كان هناك فرصة كبيرة، وككل الفرص التاريخية التي تضيع ويضيع معها الكثير أن تتجذر تلك المقولات أن يمتد هذا الحوار العظيم الذي رأيته في منتديات حمص.. أن.. أن.. لكن المواجهة كانت أكبر من هذا الجنين العظيم..
ذلك العمل الأساسي الجذري والذي هو حل، يتصدره الآن تيارات ومجموعات ومنظمات تحاول أن تجد بيئة للمقولات تلك، تأسيسها وزرعها.. لن ندخل هنا في العامل الموضوعي الذي هو تحدٍّ يُنتج اللاجدوى ومزيداً من الإحباط. بل التركيز هو على العامل الذاتي؛ على الأداة التي تحاول إعادة إنتاج شعارات 2011 على أنها مفاهيم ومقولات منزوعة من المجتمع، محاولة إعادتها وإنتاجها من جديد، هذا العمل مهم وواجب، وهو الممكن الوحيد أمام انسداد نقف أمامه منذ ضربة الكيماوي على الغوطة..
هذا الذاتي/الأداة يعاني برأيي من أربعة ألغام قادرة على نسف هذا المجهود وتذريره وإعدام ما يريد، النتائج من كل عمل عام يمكن أن تنحرف عن الأهداف، ويمكن أن تكون على الضدّ من الأهداف، النتائج في العمل العام ليست ابنة النوايا مهما علا صدقُها، الهدف ينتمي لرغبة الذاتي والنتائج هي في الموضوعي؛ أي يحكمها عقل الموضوع الذي هو ليس عقلي ولا عقلَ أي فرد، يحكمها منطق الواقع والذي هو ليس منطقي الذاتي ولا إرادتي ولا منطق أي منظمة ولا إرادتها.. تصغير الهوة بين الهدف والنتيجة يحددها الفكر، مقدار وجوده، بدون فكر الهوة تكبر وقد أجد نفسي بأحيان كثيرة أخدم عكسَ هدفي “كمثال من أروع الأحزاب التي ظهرت في الثمانينات هو حزب العمل الشيوعي، الحزب الأكثر راديكالية تجاه النظام، لكن هذه الراديكالية بالنتائج قد خدمت النظام وقوَّته بدل أن تضعفه”.
الألغام الأربعة:
1 – في كتابه عن الإنسان المتمرد، يحدد ألبير كامو المكسب النفسي أو الروحي للمتمرد، للخارج عن واقعه، للثوري، لمن يريد التغيير، أن عند خروجه عن المرسوم اجتماعياً وثقافياً هو يدفع ضريبة تختلف نسبتها، قد تكون النبذَ الاجتماعي أو حياة شاقة مادياً أو السجن السياسي، لكن هذه الضريبة هي الوحيدة التي تنتج هويته، يتعرف لطبيعته الإنسانية التي هي حرية، يبدأ بالمعرفة وقد يُنتج فكراً أو أدباً أو فناً. المتمرد يُنتج؛ بداية يُنتج هويته وهذه الهوية تاريخياً تتحول لوجود لواقع، حجر الأساس في هذه العملية هو معاناته.. المعاناة تُطلق معنى.. التمرد يُنتج القيمة، قول الـ “لا” هو الانتقال من عالم الواقع إلى عالم الحق، التمرد وقول الـ “لا” هو إنتاج المعنى، للحياة معنى غير معروف عند الساكت، المعنى يُعرف في التمرد، التمرد يُنتج وحدة البشر، يُورد كامو مثالاً عظيماً أنك في وحدة البشر تنتفض ضدّ كل اضطهاد، أنك تنتفض ضدّ كل ظلم حتى لو لم ينل من شخصك.. هذا ألبير كامو..
في الفترات الأخيرة بدأ العمل العام يتحول لعمل مأجور، مُمَّوَّل، العام له أجر، العام مُحدَّد بأجر، المقال يتحدد بعدد كلماته أي يوضع على ميزان، في المحاضرة هناك أجر للمحاضر وهناك أجر للحضور، أمكنة هذا العمل هي تماهي مع استلاب تاريخي للغني، مشاريب وطعام ومحارم وقناني مياه وطاولات و.. و.. بسكويت وكابتشينو!.. بداية العمل العام والتمرد على الواقع يُنتج راحة وليس معاناة، يُساهم في رغد العيش بدل شقائه، الروح التي تحاول أن تنتج فكراً تموضعت خارج الماهية الإنسانية لتتحول إلى بضاعة قابلة لأن يكون لها ثمن وبالتالي للتبادل. الروح = سلعة وتُبادل برقم!..
هنا نتذكر ماركس في مخطوطاته العظيمة 1844 أن ضياع الروح هو نتيجة أن عملها يتموضع في سلعة قابلة للتبادل، الروح تدخل قوانين العرض والطلب.. الآن هناك طلب مثلاً على علاقة السهل بالجبل، أو التماسك المجتمعي، أو الجندرة، أو الدستور أو اللاعنف أو المجتمع المدني.. دون دراسة راهنيتها وضرورتها، قد تكون راهنة ومهمة، لكن المقياس هو السوق.. “عندما كان ريف دمشق بالكامل يعاني حصاراً اضطر أهله لأكل قطط، وكان هناك من يتحدث عن قضايا المرأة والطفولة”.. نحن نبحث عن روح واجبة للتغيير، في السوق تضيع الروح كما يضيع كل شيء يُراد.. في العلاقة السوية المُنتجة والمُثمرة بين الذات المفردة وبين العمل العام الوسيط الوحيد في هذه العلاقة هو احترام الحقيقة. تَعثَّرَ العمل العام في العقود الماضية عندما استبدل هذا الوسيط بشهوة الشهرة أو حضور الذات أو التوق لسلطة، الجديد الآن أن الوسيط هو المال.. ولأن الوسيط هو شرط تفاعل طرفي العلاقة (الذات المفردة/ العمل العام)، لذلك هو البيت الذي يسكن فيه الطرفان، وبمعنى آخر هو الإله المعبود من كليهما، أن يكون للحقيقة هذا الدور، أن تكون الوسيط والبيت والإله فهذا هو المنتج تاريخياً للتقدم في حرية البشر والأوطان..
أن يكون الوسيط شيء ما غير الحقيقة، هي بالضبط فكرة هيجل وماركس أن الروح تصنع معيقات نموها، الروح ضدّ نفسها.. الروح تعادي ذاتها.. هذا استلابها، وهنا معركتها بانفكاكها عن كل استلاب..
2 – اعتاد الفكر العربي الذي كانت بدايته في أوائل القرن الماضي أن يبدأ مسائله بعد البداية، هذا الفكر الذي نما في مناخ وضعي عالمي يُمجِّد التقنية والصناعة والنظرة الإيجابية، كارهاً للفلسفة والمجردات والرياضيات مُبقياً منها علم الإحصاء، كارهاً للتحليل النفسي ومُمّجداً للسلوكية والبحث عن طرق إنتاج السلوك “برمجة لغوية عصبية وعلوم غريبة عجيبة همها ابتسامة غبية على وجوه الناس”، البداية الحقيقية هي فلسفة كل شيء، الفلسفة قبل، الفلسفة هي “التفكير في الأفكار”، “التفكير في المقولات”، بدون فلسفة تتحول الأفكار والمقولات إلى آلهة تُعبد، عبادة العلمانية وعبادة الحداثة وعبادة التنوير وعبادة من جهة أخرى للإسلام هو الحل، عبادة الليبرالية.. مقولات تُشحن بالخير المطلق، تميمة صلاة.. الفلسفة تكشف النقص/ السلب في الواقع.. تعلن عدم إيجابيته، تهتم بالسلب وليس بالإيجاب..
فلسفة التاريخ ورؤية نمو الروح وتغيراتها قبل علم التاريخ وأساس له، فلسفة الحق قبل ديدن المدنية وأساس لها، المنطق الرياضي قبل الإحصاء وأساس له.. بدون هذه البداية وكما يقول إلياس مرقص “عندما يدرك الذهن حدّاً من حدود الحقيقة فإنه يركع لها”، وبالنتيجة يقف ويُراوح عندها.. هذه البداية هي الصفر الحامل للانهاية، أي تحديد الأساس قبل الفروع، الفكر العربي يركض للفروع لميشيل فوكو أو سيمون دي بوفوار مثلاً، بدون الأساس ليس هناك فكر. بدون فكر تكون النتائج ضد الأهداف..
أحد الأمثلة على ذلك الحديث عن التماسك المجتمعي قبل فحص كلمة مجتمع، هل المجتمع مجموعة من الأفراد كما تقول أدبيات البعث، أو أدبيات الدعوات الإسلامية؟ وعند صلاح الأفراد يصلح المجتمع.. المجتمع يحيل على العلاقة بين الأفراد وليسوا هم قوامه، العلاقة هي قيامه، قبل التماسك هل نحن مجتمع؟ هل هناك مجتمع سوري؟ أو هو جمع جبري لطوائف وعائلات وأقوام وعشائر.. فحص الكلمات/ المفاهيم والمقولات هو أساس، هذا الأساس يضيع في لهفة الرغبة أن نجعل من عملنا “ثقافة”..
مثال آخر لا يقل خطورة عن سابقه، هو مفهوم المدني وسياقه التاريخي، وظيفة المدني أنه يقطع مع التقليد ومع تجليات التقليد، وظيفته أنه يربط الفرد بذاته ويحرره من ربطه بعائلة أو طائفة أو سلوكيات هي عرف.. المدني في سوريا لم يقطع مع التقليد لم يستطع أن يميز نفسه عن التقليد، هو انخرط فيه تداخل معه، وفي أحيان كثيرة استخدم مفرداته..
المدني عند هيجل وعند ماركس هو أن يكون البشر ذرات متنافسة متصارعة ومتضادة بمصالحها، والدولة الحديثة هي العلاقة فيما بينهم، هي الرابط، العلاقة بين البشر في المجتمع المدني تكون عن طريق الدولة.. هذا السياق غائب بالتمام عن ذهن العاملين فيما يسمونه “منظمات مجتمع مدني”، المدني عندهم هي مفردة مشحونة بالخير والفضيلة والملائكية، وهنا السؤال: في غياب دولة القانون هل فعلاً ما نحتاجه هو مجتمع مدني؟ أو تشكيل سياسي يناضل من أجل قضيته؟ في تاريخ حركات التحرر البشري كان التشكيل السياسي هو الفاعل وهو القادر.. هذا الفقر بالفكر جذره أننا نريد عمل بدون فلسفة وبدون فحص للمقولات المتداولة..
-3 في ظل فقدان الانتماء لهوية طائفية أو عائلية وانعدام الحب والشعور العميق بالوحدة، يصبح العطش الأساسي لهؤلاء هو كسر العزلة وامتلاك هوية ينتمي من خلالها، وعندما يكون الدافع السيكولوجي فيه من القوة ما فيه يفرض نفسه كحضور يُنتج سلوكاً، الدافع الحاضر يُذكِّر صاحبه بألم الحرمان من الحب والانتماء والهوية، ويُجبره على التمسك والتشبث بكل ما يُنجِّيه من هذا الألم، قدمت هذه التيارات نفسها كطوق نجاة للعاملين في حقلها.. هي تمتلك الوصفة، بعيدة عن هويات متخلفة، لها عناوين تثبت ذلك، مع إريك فروم في رحلته الطويلة أن الانتماء كحلّ لكسر العزلة يكون بالتشابه بين أفراد العائلة الجديدة، التماهي فيما بينهم، استقالة ملكة التفكير والنقد لصالح قائد، والضمير هو ضمير هذا القائد، هو الضمير العام للمجموعة، ليعاد إنتاج الشلّة بدلاً من أن يكون تنظيم غناه في تمايز أفراده واختلافهم عن بعضهم..
الذات في ضياعها تبحث عن تعيُّن وعن تعريف، في ألم ضياعها هي ترتد إلى ما وراء بلوغها، يحتلها الدافع القديم المكبوت ويقدم لها الحل، الدافع القديم هو الإقرار بحضورها بين الآخرين، اعتراف الآخرين فيها بأنها مميزة وأنها فريدة، الإعجاب فيها.. والإعجاب فيها هو عند استيلائها على نموذج، تماهيها مع هوية. لإريك فروم التقاط مدهش في وصف هذا السلوك؛ أن الوحيد يكفيه أن يأكل ويشرب ويلبس على طريقة النبلاء على سبيل المثال، ليكسر ضياعه ويتعرف على ذاته أنها تنتمي للنبلاء حتى لو بقي وبشكل حقيقي وحيداً، هذه الهوية سيكولوجيا، ولأنها سيكولوجيا نحن إذا أمام اضطراب نفسي.. اضطراب لكنه جماعي، ولأنه جماعي لا يشعر المريض بمرضه، ولأن الحلّ جماعي لا يشعر المضطرب باضطرابه.. إعجاب متبادل بين متشابهين هويتهم هي هذا النموذج “المدني”.. وهذا اغتيال للمدني كفعل ضد التقليد، التقليد يعود من بوابة السيكولوجي..
4 – اللغم الرابع هو إمكانية التحوُّل للضدّ.. في الفلسفة الهيجلية ما قبل العقل هو عالم الفهم، الفهم هو عدم معرفة الحدود، أن الحدود هي محمولات على موضوع أكبر منها بكثير وهو الإنسان، الفهم يقيم الهوية، يرى الواقع جواهر منفصلة، لا يعي جزئيتها، ويحوّلها إلى مُطلقات، هي جزئي، حقيقتها أنها نسبية، يصنع منها الفهم كليّات ومُطلقات عابرة للزمن ومقاومة لفعل التاريخ (النظريات القومية، والعرقية مثالاً، تمجيد وطَوطَمة الحدّ الذي يُعرِّفني وأتعرف على نفسي من خلاله. طوطمة حزب، ثورة، والشعب العظيم، أو الحزب العظيم، طوطمة المدني.. لائحة طويلة للجواهر).
الكلّي الكامن، التاريخي المُغيَّب في وعيهم وراءها ينتقم بسلبها، هذا اللامنتهي الكامن والذي وظيفته تدمير كل منتهٍ، يحوٍّل كل هوية جزئية تدّعي أنها مطلقة وكليّة إلى نقيضها، ويسحب منها الروح والمعنى، هذا التأسُّن في مستنقع مملكة الفهم التي هي قبل العقل، والتي ترى تاريخ البشر بعين القوانين الوضعية، والواقع تراه أصنافاً وماهيات وجواهر يتم ترميزها بأعلامٍ وأغانٍ وصورٍ وشعارات، لن يفعل إلا أن يُحوِّل كل منتهٍ لضده.
هي ملاحظات حريصة على جمال الكثيرين وجمال أرواحهم وجمال ما يريدون وليست انتقاصاً، ربما تكون المعركة الكبيرة هي معركة وعي كل شيء..

Exit mobile version