تسألني صحفية غربية عن “أقوى دليل لديكم يثبت التهمة على جيش الإسلام في قضية اختطاف رزان”.
قبل أن أجيبها أفكر في ما يمكن أن تعرفه السيدة عن سوريا وعن السوريين وثورتهم، أو حتى عن سميرة ورزان ووائل وناظم.
سيدتي، الجريمة هي اختطاف رزان وسميرة ووائل وناظم؛ أربعة: سيدتين ورجلين.
تستدرك (كما يستدرك كل من يسمعون هذا التصحيح): “طبعاً طبعاً.. هم أربعة، أقصد رزان والآخرين..”،
لكني مرة أخرى أصحّح: هم أربعة، لا يقبلون الاختزال بـ “رزان وأصدقائها” ولا “سميرة والآخرين” ولا يوجد ترتيب اصطلاحي لذكر أسمائهم..
ولا أعرف إن كنت سأثبت عندها انطباعاً محتملاً عنا معشر السوريين “شعب الله الفهمان”! من مثل أن “السوريين يعيدون تعريف المصطلحات والأشياء، ويجيبون عن السؤال بأسئلة”:
سمّينا النتائج التي وصلنا لها “قرائن” evidence لنتحاشى كلمة “أدلة” proof ذات الدلالة النهائية، الجنائية والقانونية.
وقد نشرنا كثيراً منها في مواضع عديدة، مثل:
- شاهد عيان في صبيحة الجريمة، قال إنه رأى المختطفين في سيارة متجهة لأحد المقرات، المقر ليس لجيش الإسلام، صحيح، لكنه يتبع لرجل من جيش الأمة، تم استثنائه من التعذيب والسجن المديد أسوة بزملائه بالفصيل عندما بطش جيش الإسلام بجيش الأمة ونكّل بعناصره بعد الحادثة.
- شاهدتان قالت كل منهما، وبمعزل عن الأخرى، إنها رأت رزان في أحد سجون التوبة التابعة لجيش الإسلام.
كذب جبهة النصرة البواح بإنكارها معرفة أي شيء عن قضية المختطفين الأربعة، وكذلك وفي نفس السياق عن قضية اختفاء الدكتور أحمد بقاعي، والذي خرج لاحقاً من سجن يتبع لجبهة النصرة نفسها. وبناءا على هذا حاول جيش الإسلام تبرئة نفسه مجدداً بتذكيره بالعداء بينه وبين جبهة النصرة، بدليل المعارك الكثيرة بينه وبينها، وطرد الجيش للجبهة من معقله مدينة دوما.. والواقع أن ما يذكره هذا الدفاع صحيح، لكنه لعبٌ بخط الزمن؛ لأن الخلاف والمعارك أتت بعد تقارب بين الفصيلين يعرفه الجميع، وبالتأكيد احتوى هذا التحالف تنسيقاً أمنياً، باعتباره أفضل ما يتقنه الفريقان.
- مسألة اللابتوب وتحديد العنوان، والشخص من جيش الإسلام الذي قام بفتحه.. تم الكلام عنها كثيراً.. وهناك من شكّك بها، ولكننا أصبحنا نعرف أن الراحل زهران علوش غضب غضباً شديداً، ووبخ المسؤول عن هذه “الغلطة” بفتح اللابتوب وشدد إجراءاته بعدها.
- حادثة إطلاق النار على باب مكتب المختطفين وشفعه برسالة تهديد صريح بالقتل، والتي سبقت الاختطاف، واعترف مرتكبوها أنهم ينفذون أوامر الشيخ كعكة مفتي جيش الإسلام. قائد العملية وبعد أن اعترف بجرمه (هرب) من مكان توقيفه على ذمة التحقيق، هرب دون غيره من عشرات أو مئات الموقوفين. ثم أصبح لصيقاً بقيادات جيش الإسلام، وينفذ لصالحهم عمليات أمنية وعسكرية حتى الآن، بعد أن كان ينفذ عملياته كـ freelancer !
- التحقيق الذي فتحه جيش الإسلام ليبرئ نفسه ويرفع العتب، ثم لما بدأ زمام هذا التحقيق يفلت منه حاول تعطيله، ومع ذلك وصل التحقيق إلى مسؤولية جيش الإسلام عن الجريمة.
- إفادات معتقلين خرجوا من سجون جيش الإسلام عن التحقيقات التي جرت معهم، وأنهم سُئلوا عن رزان، وأن المحققين أتوا على ذكر معلومات لم يكن يعرفها أحد غير رزان، ما يشير إلى استجوابات لرزان من قبل نفس المحققين.
- وجود الدافع المستمر constant motive عند الخاطفين، وسجلهم الحافل بإقصاء المختلفين.
- خلال السنوات السابقة، تمت تصفية مجموعة من الأشخاص، باغتيالات أو بالقتل في ظروف غامضة، يجمع بين عدد منهم قاسم مشترك؛ هو احتمالية معرفتهم لمعلومات تخصّ اختفاء أصدقائنا الأربعة، أو حتى احتمالية تورطهم بالجريمة.
- نقاشات محدودة في غرف مغلقة، وكل منها له سياق معين، مع متنفذين و/ أو متنفذين سابقين في جيش الإسلام، كلها كانت تدور باعتبار مسؤولية جيش الإسلام عن الجريمة أمراً مفروغاً منه وليست موضع البحث، وإنما يناقش فيها ما يمكن فعله الآن (أو في حينه) للكشف عن مصير المخطوفين.
هذه قرائن، قد يكون بعضها ضعيفاً أو مغلوطاً أو مختلقاً، ولكن الأكيد أن فيها مجموعة من الحقائق، تحتاج لمتابعة لبناء ملف حقوقي، سيصل حتماً لأدلة وحقائق نهائية.
إذاً، ما هو أقوى دليل؟
الدليل proof الذي عندي قوي ونهائي، وهو يتجاوز المتّهم بالجريمة (الآن على الأقل)، لكنه يثبت وجود تواطؤ.. تواطؤ بعدم التعامل مع القرائن، أو عدم تتبعها لتصبح أدلّة، أو حتى ليتمّ توضيحها وتفنيدها.
دليلي هو استمرار تغييب الأربعة ومجهولية مصيرهم، حتى بعد تهجير الثوار من الغوطة ومن مسرح الجريمة، وإلى الآن بعد سبع سنين ونصف من اختفاء الأربعة، رغم وجود مواد ومعطيات تكفي جداً لبناء مرافعة تصل إلى نتيجة.
المتواطئون كثر، وربما اضطروا لهذا التواطؤ تحت الضغط، أو بسبب تورطهم بشيء ما، له أو ليس له علاقة بالقضية نفسها، أو لخوفهم من المواجهة.. أو حتى لرضاهم بواقع تغييب الشرفاء الأربعة!
ناشط وصحافي، رئيس تحرير مجلة طلعنا عالحرية، ومدير مكتبها في دوما / الغوطة الشرقية سابقاً، إجازة في الآداب من جامعة دمشق قسم اللغة الإنكليزية، مدير مكتب الحراك السلمي السوري في ريف دمشق.