[من وحي مناوشاتنا حول وديع ورئيس الائتلاف والقبيسيات والسبّاحات، وفي سبيل بناء الهوية السورية القادمة]
عبدالله شاهين
14 كانون الثاني 2023
نلجأ نحن معشر الأطباء في حالات غياب قدرة المريض عن أخذ القرار إلى إحالة هذا القرار إلى من هو أفضل مرشح للحديث باسم المريض وتمثيل فكره ورغباته. في الحالات المثلى يكون المريض قد منح هذا التكليف إلى شخص ما مسبقاً عبر توكيل رسمي (power of attorney) وهو مفهوم قانوني يمنح شخصًا ما الحق في اتخاذ قرارات مهمة نيابة عنك، لكن الغالبية العظمى من الحالات تلزمنا -بحسب قانون البلد- إلى البحث عن أقرب الأقربين (next of kin)، الذين يمنحهم القانون هذا الفضل بالحديث نيابة عن الغائب. يبدأ التسلسل من الزوجة إن وجدت، فالأبناء إن وجدوا، فالوالدين، فالإخوة.. وهكذا تباعاً إلى أن يصل التوكيل إلى من يمتلك أقرب درجة صلة بالشخص.
يشير مفهوم أقرب الأقارب (next of kin) تاريخياً إلى تراتبية علاقة عائلية بين شخصين. وهي رابطة قائمة على الدم، وتقاس بشكل واضح عبر تموضع الشخصين في شجرة النسب (pedigree tree). وتحكم هذه العلاقة أموراً عديدة من الزواج إلى الميراث مروراً بالقصاص والديّة والحماية، والدفع، والقبول، وغيرها. وكانت هذه البنيةُ تاريخياً عمادَ تكوُّنِ المجتمعات البشرية، وهي التي أنشئت عليها الجغرافيا (القرى والمدن) واللغة والدين والهويات المصطنعة اللاحقة الظهور.
إلا أننا نحن اليوم في عصر وبنية مجتمعية تمكنك من اختيار أقرب أقربائك وإعادة ترتيب شجرة عائلتك إلى بنية أقل هرمية، والاستعاضة عنها بشبكة علاقات تفوق البنية المتشكلة عبر قدرة على تشكيل علاقات مباشرة بين الأفراد وزيادة القدرة على التواصل بين المجموعات والأفراد بشكل يقفز فوق حواجز النسب والمصاهرة والقرب الجغرافي. فأقرب الأقارب لم يعودوا فقط الأشخاص الأكثر ارتباطًا بك عائلياً.
ولديك أيضاً قدرة على منح التوكيل الرسمي (power of attorney) قانونياً ليقوم شخص آخر باتخاذ القرارات عنك.
كما يمكنك اليوم عبر هذه البنية الاجتماعية من فصل تلك العلاقات المباشرة بشكل أيسر، والاكتفاء بالعلاقات البعيدة؛ سواء أكانت عبر تراتبية الأفراد المشتركين أو عبر أواصر النسب والدم.
تحول التنظيم الإنساني إذاً من شجرة عائلية منصوبة ومفروضة إلى شبكة علاقات شبيهة بما نشاهده في نظرية المخططات (networks and graph theory). تتيح هذه البنية الجديدة للفرد أن يستبدل بعلاقته غير المباشرة بابن عمه علاقة أخرى أوثق وأقرب، لكنه في الوقت نفسه لا يمكنه استبدال علاقته المباشرة بأبنائه ووالديه. إلا أنها تخلق كذلك فرصة لخلق علاقة تكون أقوى مع تلك مع الآباء والأبناء من خلال هذا التشبيك الاجتماعي.
لو اعتبرنا أن كل فرد يكون عقدة في هذه الشبكة فإن محصلة العلاقات التي تحيط به هي التشكيل الحقيقي لهويته الذي لا يستطيع بالضبط تمثيلها بشكل دقيق باستخدام اللغة، وفي الوقت الذي تكون فيه العلاقات من الدرجة الأولى (العلاقات المباشرة بين الأفراد) في مجملها قادمة من عوامل خارجة في مجملها عن اختيار المرء كالأسرة والنسب والجغرافيا والقومية والعرقية وروابط العمل، إلا أن لدور الفرد في تقويتها وتفعيلها أثراً مهماً في رسم مجتمعه المباشر، وهذا الأثر لا يأتي من الأفراد الذين يتصل معهم ذلك الفرد/ العقدة في الشبكة، بل من باقي معارف معارفهم ممن لا يتصلون هم معهم بشكل مباشر. فمحصلة هذه العلاقات غير المباشرة وتنوعها هي ما يلعب الدور الأكبر في تحديد ما سأسميه “الهوية المتجلية” (manifested identity) في مقابل الهوية المتصوّرة ذاتياً (Self-Perceived Identity).
وإن العقد في العادة لا تكون عشوائية في تواصلها ولا متساوية في توزعات علاقاتها، بل تميل إلى خلق تجمعات (condensations or connected groups) وقد يحصل أن تنغلق مجموعة على نفسها فتخلق زمرة (clique) تعتزل الآخرين وتظل حبيسة علاقاتها القوية أو الضيقة.
هذه العلاقات هي أكبر محدد للهوية الفردية الأقرب إلى الهوية الأساسية (core identity) لأي إنسان ما، وهي القادرة على تغيير من يكون ذلك المرء في التصنيف وفي الجوهر. وإن دراسة هذه العلاقات والروابط الشبكية بين الأفراد وبعضهم وبين المنتجات والأشياء الأخرى التي يعمد الناس فيها خياراتهم تنتج البصائر العميقة والغامضة التي استطاعت شركات التكنولوجيا والتسويق والعلاقات العامة وهوليوود استغلالها لمعرفة زبائنها وكيف يمكنهم التعامل معهم واستدراجهم وتصنيفهم بشكل يسهل استهدافهم.
من المفارقات أن الهوية التي سوف تطغى على الفرد ليست الهوية المتصورة ذاتياً والتي يختار الناس التعرف بها، بل تلك التي يكتسبونها من خلال خياراتهم وأفعالهم وعلاقاتهم.
ولأن الناس ليسو سواسية، فكذلك أوزان هذه العقد في الشبكة؛ هنالك من يمتلك وزناً يساوي ويفوق وزن ملايين العقد الأخرى، هذا الوزن آتٍ من عدد الناس المتصلة بتلك العقدة والثقل الذي يمنحونه لصلتهم بتلك العقدة. والأثر الذي يعكسه قرب أي عقدة إلى تلك العقدة “الوازنة” متناسب طرداً مع وزن العقدة الأصلي ومع ثقل العلاقة التي تبنيها. فإن التقت عقدتان كبيرتان فإن الرابط بينهما قادر على هدم أحد التجمعات وخلق تجمع بديل يستثني جزءاً كبيراً من التجمع المهدوم ويلصق المتبقي بشبكة العقدة الوازنة التي سوف تجمعهم وتقربهم إلى الزمرة المرتبطة بها.
فلنفترض أن هنالك مجموعة أقرب إلى كونها زمرة ولنسمها “الشواهين”، وهنالك نزاع بين مملكتي “الغابة الصفراء” و”التوت الأخضر”. وأبقت زمرة الشواهين حياداً ظاهرياً في الوقت التي أبقت على زيجاتها مع عائلات الغابة الصفراء وتنكرت إلى زيجات التوت الأخضر دون أن تدخل في النزاع. فإن تحرك الفارس “العرقسوسي” (صهر ملك التوت الأخضر) لتزويج ابنه الوحيد إلى إحدى الشواهين من الطبيعي أن يخلق شقاً في مجموعة التوت الأخضر، ويضم العرقسوسي وابنته لا إلى الشواهين فقط بل إلى مملكة الغابة الصفراء التي بالأساس هي الخصم. فوجود هذه الرابطة الصغيرة أو عدمه، كافٍ إذاً لنسف تجمع كامل وما يحمله هذا التجمع من هوية محددة.
حقيقة فإن الخروج من المجتمع المنسوج من شجرة النسب إلى المجتمع المفتوح لم يخرج الناس من القبائلية، بل غير شكلها وفي بعض الأحيان بنيتها، وأحياناً استبدلها بعصب وزمر أكثر انغلاقاً وتعصباً من البنى القبلية التاريخية. وهذا الخروج ليس بالضرورة ظاهرة حديثة، فمن الصعاليك إلى الحشاشين مروراً بالأخويات المسيحية والأخوة في الإسلام (والولاية والبراءة) والطائفة والمناطقية وطبقات المجتمع.. نجد المجتمعات البشرية عبر التاريخ تأخذ نظم اتساق قائمة على وحدة الحال ووحدة المصلحة بعيداً عن البنية القبلية التقليدية.
هذه العلاقة المبدّاة لا تكون بمعزل عن باقي العلاقات الأخرى في دائرة ذلك الشخص، وسوف تستلزم في كثير من الأحيان الدفاع لا عن الذات فقط، بل عن العلاقة الجديدة المعززة مع الطرف الثالث وعن ذلك الطرف في آن معاً. ومن المهم فهم أثر الخيارات التي تبدو لوهلة على أنها حرة وفردية على باقي المحيط والمجموعة.
إن بناء أو تقوية أو قطع العلاقات في الشبكة الاجتماعية لا يكتفي برسم أثر على الهوية التي يتم إسقاطها على العقدة/ الفرد وتبعاتها على المجموعة التي هو جزء منها، ولا على تصرفات تلك المجموعة حوله بين من سيوافق ويتبع ومن سوف يعترض وينفصل، بل يمضي هذا الأثر قدماً ليدمغ أفعالهم المستقبلية بما سوف يعزز البنى الحديثة ويدمر أو يعيد تشكيل القديمة، والتي بدورها سوف تخوض مراحل من التطور والتمايز والاندماج حتى تنتج عنها في المحصلة هوية أوضح تشكلاً وأكثر تماسكاً مما لدينا اليوم.
إن صياغتنا لمن هم “أقرب أقربائنا” اليوم تبدأ بمنح أثقال لتلك الروابط التي بيننا وبينهم، وإعادة النظر في تلك العلاقات البعيدة أو الأقل أهمية والتي سوف تجعل من بنية المجموعة منقسمة دون أن يكون لمحاولة دمجها بالأساس فائدة.
ومن هنا فلابد من محاسبة رموز الثورة حين يقررون التملق لزمرة خارجية تموضعت كـ”شواهين” من باقي المجموعة أو هي بالأساس خارجية، بغض النظر أكان التقارب مبنياً على انحياز ديني عسكري، أو طائفي مناطقي طبقي، أو سياسي مصالحي شخصي، ولا مفرّ من سماع صرخات الاستنكار عندما نرى من المجموعة من يذهب ليمثل السردية الجامعة لنا، فيسقط فيها أهم ما يعرف وأفظع أشكال تمثيلها من أجل إرضاء الذائقة الغربية. ومن الطبيعي -بغض النظر عن عدالته وصوابه- الشماتة بموت ابن من شمت بموت أبناء تلك المجموعة، والترحيب الواسع بضرب وإهانة فرد ممثل من زمرة قامت باختطاف آلية التمثيل الوحيدة المتبقية لما كان جامعاً للغالبية الساحقة من الثورة السورية.
إننا في كل فعل واعٍ وفي كل موقف نعيد رسم وتشكيل المجموعة التي نتحلق ضمنها، واستنكار تمثيل الملايين عبر صورة حياة مجموعة استثنائية لا تمثل 1 في الـ10000 في فنك وفي كتاباتك وفي سياساتك وخطاباتك إرضاءاً لوهمهم وغرورها ومداعبة لشبق وأحلام الآخرين حول تلك المجموعة.
وعلينا أن نتذكر أن أثر هذه الأفعال سوف يبقى متعدياً، إلا في حال القطيعة الكاملة عن المجموعة. هذا الإدراك خطير جداً وليس مريحاً، وهو بعيد عن العدالة والمحاسبة المسؤولة التي نحلم بها على الدوام، وكلها أنظمة وأفكار كوّنتها رحلتنا كجنس بشري واحد على سطح هذا الكوكب دون أن نصل إلى سبيل يحققها لنا.
من هنا لا بد من تدمير الفكرة البلهاء حول وهم الفردانية المطلقة والأفعال المتحررة من كل الضغوط وعوامل الجذب المجتمعي.
ليس هذا نداءاً لخلق العداوة المطلقة والقطيعة الكاملة مع “الآخر”، بل العكس تماماً، إن إخراج فكرة “الآخر” من المعادلة تتضمن منحه مكاناً وعلاقة ووزناً في العلاقة الاجتماعية، وتتضمن كذلك عقداً اجتماعياً يعيد صياغة هذه العلاقات وتحديد أثقالها بناء على أسس أكثر عدلاً وأوسع تطبيقاً تشمل الجميع وتشجع الجميع على المضي نحو جامع نرتضيه كلنا، ومن الطبيعي أن نرى مجتمعاً كان مذرراً (atomized) بشكل شبه كامل يتشكل أول الأمر على شكل حصيات وزمر منفصلة ومتباينة، وإن الخط الطبيعي لسيرورتنا لا بد أن يمر عبر إيجاد صيغ أوسع وأكثر تصلباً في استيعاب بعضنا دون أن نجد في بطوننا أحجاراً يصعب هضمها.
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج