علي الدالاتي
بين أشجار الزيتون في الأراضي الزراعية التي يختلط فيها الشجر والخيام والبيوت، وعلى مقربة من أكبر تجمع للمخيمات في شمال سوريا، بناء مؤلف من ثلاث طوابق تعود ملكيته لمحمد الشيخ، أحد أهالي بلدة أطمة على الحدود السورية التركية، والذي قام العام الماضي بتأجير الطابق الأول الذي له مدخل منفصل لعائلة، والطابقين الثاني والثالث لعائلة ثانية ليعتاش من الإيجار. معظم هذه الأبنية بنيت في سنوات الحرب لإيواء أكبر عدد من النازحين.
لم يعلم الشيخ أنه سيخسر منزله بسبب هذا الإيجار؛ فكل ما يعرفه أنه أجر المنزل لسائق سيارة لنقل البضائع، لا علاقة له بما يجري، فلا خطر منه -أو عليه- قد يصيب المنزل. ولكنه صُدِم عندما عرف أن أصوات الانفجارات والاشتباكات جميعها كان مصدرها منزله المؤجر، وأن العملية تستهدف القضاء على “الخليفة” قائد تنظيم داعش!
حضر الشيخ مسرعاً في صباح ليلة العملية، ليتفقد المبنى والأضرار التي لحقت به. عند وصوله رأى أن البناء قد دُمِّر طابقه الثالث (الملحق) بشكل شبه كامل، ماعد المطبخ؛ كون “القرشي” قد فجر نفسه في ذات الطابق حسب روايات الشهود. أما الطابق الثاني فكانت به آثار تخريب وإطلاق نار وأغراض مبعثرة في كل مكان، مع آثار دماء على الأرض والجدران، وأعيرة نارية متناثرة على الأرض.
يُمكن لمن ينظر للأغراض المبعثرة ملاحظة كميات كبيرة من الأطعمة والأدوية، مع وجود لعب أطفال مبعثرة بين الغرف، بالرغم من أن التنظيم كان قد منع سابقاً في مناطق سيطرته أي دمى لها وجوه أو أعين أو جسم بشري، بالإضافة لألعاب الأطفال المستوحاة من أشكال الحيوانات! إذ اعتبر تلك الدمى أصناماً، وحيازتها تعني العقوبة لأنها شكل من أشكال الوثنية!
وعن تلك المفارقة قال الشيخ حسن الدغيم إن التنظيم لديه تبريرات واهية لهذه الأمور؛ كالأسباب الأمنية واعتبارات خاصة، وحجج أخرى لخرق القواعد التي وضعها، رغم أن عناصره كانوا يكفرون غيرهم لفعل ذات الأمور، أو حتى أقل منها.
وأكد الدغيم أن داعش تنظيم يحمل أفكاراً اختلطت بها أفكار الغلو، وحزب البعث، وهذا قد يكون أحد أسباب المفارقات تلك. ويتابع أن التنظيم جعل من الإجرام الصفة الثابتة الوحيدة له؛ فعقيدة التنظيم تستحل الدماء والأموال، والخطف لأخذ الفدية، كما مارس السلب والنهب، ولم يتوقف إجرامه عند دمى الأطفال..
أما الناشط ماجد عبد النور فيقول عن ازدواجيات تنظيم داعش: “يكفروننا ويستبيحون دماءنا، ويرون في قتلنا أولى الأولويات، ثم يختبئون بين خيامنا كالجرذان”!
وفي لهجة الساخر المستنكر يكمل كلامه: “..في وقت شدة البرد كان في منزل “الخليفة” عدة مدافئ، وفي مطبخه ما لذ من الطعام، رغم أنه يعيش في منطقة تملؤها المخيمات، ويبات أهلها وقد أصابهم البرد والجوع، وكأن الخليفة المزعوم لم يسمع ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع إلى جنبه”.
مشهد الدماء على ألعاب الأطفال المتناثرة، أو تلك الألعاب الملطخة بالدماء، والتي اخترقتها الشظايا، تحمل دلالات كبيرة بنظر الصحفي فايز الدغيم؛ فهي “ترمز لإيديولوجيا التنظيم، بالإضافة لسياسية التحالف بالقضاء على التنظيم؛ فكلاهما لا يفرقان في أعمالهم بين مقاتل أو طفل، أو مجرد لعبة أطفال كان يحملها طفل للمرة الأخيرة قبل أن يُقتل، أو أن يكبر ويعرف أن والده هو المطلوب الأول دولياً”.
وربما الأغرب هم الأطفال الذين تجمهروا حول البيت المستهدف، وبسبب منعهم من دخول البيت لم يشاهدوا الألعاب المرمية بالأرض، والتي ربما لم يحصلوا على مثلها منذ سنوات، ولكنهم وجدوا ألعاباً أخرى، هي عبارة عن المخلفات الحربية للإنزال، وآثار دماره، وهي “ألعاب” اعتادوا عليها منذ سنوات، ولكن هذه المرة اختلفت الدولة المصنعة؛ فأولئك الأطفال تعودوا على المخلفات الحربية الروسية، وما خلفه الإنزال الأمريكي هي ألعاباً أقل توفراً مما خلفته الحرب الروسية عليهم منذ سنوات.
وكانت مروحيات تابعة للتحالف الدولي نفذت إنزالا جوياً في أطمة شمالي إدلب، على الحدود السورية التركية، بعيد منتصف ليل الخميس 2 شباط/ فبراير الحالي، وسط تحليقٍ مكثّف لطائرات ومسيّرات حربية أمريكية في سماء المنطقة. وقُتِل في العملية التي نفذتها القوات الخاصة الأميركية زعيم تنظيم داعش أبو إبراهيم القرشي الملقب بالحاج عبدالله قرداش، و13 شخصاً، بينهم أربعة أطفال وثلاث نساء، بحسب بيان الدفاع المدني السوري.
وسبق أن سقط عدد من الضحايا المدنيين في عمليات للتحالف في شمال غرب سوريا، كان آخرها إصابة ستة أشخاص من عائلة واحدة بجروح في غارة جوية أمريكية استهدفت شخصاً في تنظيم القاعدة قرب مدينة إدلب نهاية عام 2021.
صحفي سوري مقيم في إدلب، يدرس في كلية العلوم السياسية
مهتم بقضايا حقوق الإنسان والتهجير القسري في سوريا