تحولنا إلى أرقام، كما تحولت وجباتنا إلى حصص!
وفي عالمٍ يهتم بالحصص الغذائية ومقدار ما يجب أن يتناوله المرء كي يبقى سعيداً، رشيقاً، حيوياً.. تصبح تجارة الحصص ناظماً لشقّي الكرة الأرضية (أسودها وأبيضها)؛ فبين سعادة الأبيض في تقليص حصصه ليكون سعيداً، هناك من يشقى ليتناول القليل من حصته كي يصبح حياً وسعيداً.
ليست معادلة من الله، بل هي من صلب عمل الأمم المتحدة، وحماة البيئة، وتجار الشركات العابرة للقارات. هي من لب الصناعة والرأسمالية المتمددة على طول الكرة وما بعد بعد كرتنا الأرضية هذه.
هي معادلة الأرقام التي تقضي بالاحتكار والحرمان كي يبقى السعر مرتفعاً هنا، ناقصاً هناك..
هي نفسها معادلة (النافل) التي تعني إطعام الفقراء من بقايا ما قد يتم رميه في حاويات القمامة بسبب انتهاء المدّة، وعدم القدرة على بيعه في المولات الضخمة، فيتم توزيعه على العائلات السعيدة في البلاد السعيدة، تلك التي لا تستطيع أن تكفي نفسها من مال الإعانات، فتكسب القليل هناك والقليل هناك لتسكتَ جوعها وصوتها.
هي نفس المعادلة: إنتاج ربحي ضخم هنا، يعلن حماة البيئة والغطاء النباتي انتماءهم ضدّه، كي يمدَّ الله بعمر هذه الأرض التي لم يخترها موتُ نيزكي عشوائيُ بعد.. وحرمان هناك في مجاهيل الأرض البكر وصحاري الشمس، وبياض الثلج، تلك نفسها التي وجد اللاجئون السوريون طريقهم عبرها كالأشباح كي يصلوا إلى أرض السعادة الموعودة. خطان منحنيان من اللاجئين أحدهما يوصلهم إلى النرويج عبر مجاهيل القطب الشمالي الذي كان ذات يومٍ منفى، وما زال منفى. وخط آخر يمتد من موريتانيا إلى صحراء مالي إلى الجزائر، علّه يوصل إلى أوروبا عبر البحر.
هي الأرض نفسها التي تتسع لمناطق الحصار في ريف دمشق، وشمال وشرق سوريا، حيث يحتاج إدخال حصة واحدة لا تكفي لأسبوعين إلى حملات ضغط إعلامي وأممي وإنساني، ويتم التشكيك بعدها بأن من أراد الطعام لا يحتاجه، وأن موته قد تمت فبركته، وأن هناك ما يكفي من الحشائش كي تطبخ الأمهات لأطفالها طعام الجوع!
حرب التجار في وجه المحرومين والفقراء، تعكس عنصرية نخبٍ تتحكم بالعالم، فتحتكره أرضاً وماءاً وجواً، كما الجيش السوري في الثمانينات، ووعود الحرب المنسية ضدّ العدو الافتراضي، وما نتج عنه من تحويل الأرض والجو والماء إلى منطقة احتكار بيد من يحتكر حماية الوطن. ليتحول ذاك الوطن إلى بوطٍ عسكريٍ تعيش في كنفه عائلة الوطن، قوّاد الوطن، جماهير العائلة السعيدة في ظلِّ الوطن التعيس!
اليوم ذاك الوطن الثمانيني ذاته، يغلق على نفسه أبواباً قد لا تُفتح قبل أن يفرّخ أوطاناً تعيسة. زناة أوطانٍ جددٍ يدخلون بكامل أحذيتهم باحثين عن لاعقي أبواط جدد، فيفرخوا عوائل جديدة، وجماهير تعيسة، وأحجيات لا تجسر الجدات على حكايتها ذات مساءٍ مقبلٍ. فيفرّ الوطن -بمن حمل- بحثاً عن حبل نجاة جليدي أو صحراوي أو بحري لا فرق هنا، بين ناجٍ وآخر.
في زحمة توزيع الحصص، لدينا حصصٌ أخرى من كل شيء؛ حصّة من الحرية، حصة من الكرامة، حصة من إبداء الرأي، حصة من العدالة، حصة من المعرفة وحصة من الحياة.
لدينا حصةٌ قد لا تتجاوز الخمس من مال زكاة دول العالم الغنية، يتمّ منحها لنا بالقطارة العادلة. يتم تلقيمها لنا بين الشفاه تماماً، عنقود حصرم في صحراء.. ولا ماء حولنا.
لم نكن نعلم بما يكفي أن حصتنا صغيرة لهذا الحد، فطالبنا بحصة تليق بالكبار. وهاهم يحرموننا من قطارة الحصرم اللعينة، ليتم قتل طموحنا الهاوي بيدٍ من حديد.
في المقابل، لم نتخل عن حصتنا من الكراهية، ولعنة من نريد. تفجير أنفسنا ساعة نريد، استباحة وحول البحر حين نشاء لنصل حيثما نشاء.
هانحن نحاربهم في ديارهم الكئيبة، لا الجوّ جوّنا ولا الوجوه وجوهنا. حتى نساؤهم لسن كالنساء، فاحترنا في استحالة تقبلنا لهم وتقبلهم لنا. ولكن مازلنا نحفظ الدرس الأول ونمشي (الحيط الحيط) ولا نطلب السترة!
في حصة الكراهية نتفوق ونتعلم يوماً بعد اليوم.. هذا الجار لم يعد جاري، وذاك البيت تهدم مع القرية، ولم يعد من حاجز بيني وبين كراهية من أريد سوى هذا الجدار الناري الجديد، وما يطلقون عليه اسم الحصار، والمناطق المنكوبة. وعويَ أسلحة لم نكن نعلم عنها شيئاً أيام المقاومة ودروس النضال الوطني ضدّ المحتل الأزلي!
في درس العنصرية، ظننا أننا شعب الله الأخير، الناجي الوحيد، القادر على لمِّ شمل ثورات التاريخ في ثورة واحدة، فضربنا العالم بالأحذية. نسينا أن لغة الأرقام لن تسعفنا، وأن همّ أنفسهم صانعي الأرقام والاحتكارات مايزالون يمسكون بياقاتنا ويستعدون لرمينا على منحدر الكرة الأرضية الاهليليجي.
كيف لنا أن نُفهم هذا العالم المسكين أصل حكايتنا؟ هذا ما نلهج به كل يوم على صفحات حوائطنا الواطئة.
قبلها لم يعطونا النَفَس الكافي لنفهم نحن أنفسنا أصل تلك الحكاية.