بشرى البشوات
في حوار مع ليلى أحمد زادي الألمانية الأفغانية التي فازت عام 2014 بالجائزة الثانية لصور الصحافة العالمية عن تقريرها تحت عنوان (ليلة صامتة- مذبحة قندهار)
تتحدث ليلى عن الصور القادمة من أفغانستان، وترصد من خلال عدسة الكاميرا حياة أربع نساء أفغانيات يحاولن تقرير مصيرهن بأنفسهن، تصوّر ليلى النساء العاديات، العاديات جداً.
صورة للخبازة، للأمّ، لراعية في الجبال، لنساء لم يسمع بهن أحد، نساء يغنيّن أغان عارية وحرة، تعبر جبال قندهار وتسكن في كهوفها.
“أزداد جنونًا حين أمرّ قرب قبر وليّ
أرمي له الحجارة لكل أمنياتي غير المستجابة”
لا يستجيب الأولياء لأمنيات نساء البشتون الأفغانيات، تمضي النساء المنسيّات بين الجبال الشاهقة، والتضاريس الوعرة إلى الحب والرغائب من خلال الغناء، يتناقلن بسريّة تامة الأبيات الشعريّة مشافهة دون تدوين أو حفظ.
قندهار التي أوجعها الموت، لم تنج نساؤها إلا بالشعر، تؤلف نساء البشتون هذه الأشعار وهنّ غاديات إلى الحصاد، يجمعن الحطب، يحملن جرار الماء.
يؤلّفن الشعر بأجساد تتصبب عرقاً تحت سماء أفغانستان وشمسها الملتهبة.
يكشف كتاب “اللانداي” أو الشعر الشعبي للنساء البشتون، والذي جمعه الكاتب الأفغاني “سيد بهاء الدين مجروح”، الذي صارت ذكراه نثارًا بعد اغتياله في بيشاور سنة 1988. يكشف “اللانداي” وهو الموجز.
الكتاب الذي ترجم إلى الفرنسية، ثم نقله إلى العربية “جميل صلاح” الجانب المـضيء والخلاق لروح أفغانستان، بعيدًا عن صوتها المهزوم من الجراح، ينبش أرض كابل الوعرة، ليخلّي سبيل الشهوات التي طمرتها نساء البشتون.
تقول الحكاية: “نساء البشتون لا ينتحرن بالرصاص، ولا بشنق الأنفس، فالحبال والسلاح من أدوات الرجال، وأجسادهن العطشى لا تجد راحتها إلا في قاع الأنهار؛ قفزة واحدة إلى الهاوية ويُغرق الماء كل الأحزان”!
“يا إلهي ماذا تفعل بي؟
الأخرون زهور تفتحت، وأنا تركتني برعمًا”
قندهار حيث تلد النساء نساء أخريات، وتلد الجبال الشاهقة الحب والشهوات، في الطريق إلى الماء، تضع النساء حملهنّ بعد مخاض مرّْ، يضعن أشعارًا، يهمسن بها همسًا، حيث حياتهن السريّة المغلولة، ومخادعهن التي لا يدخلها أحد، المتدفقة لهفة.
يُعلنُ عندها الشعر نفسه حرًا مرتجلًا بعيدًا عن التراكيب المثقلة، أو اللغة الجافة، ومن هذه الكوّة الضيقة التي بالكاد تتسع لمرور أجسادهن ينطلقن إلى البراري بلا وزن أو قافية في كثير من الأحيان.
يغيب الوزن كثيرًا، لكن ما يظهر جليًا هو الجرس الداخلي الراقص، التناغم الصوتي الشفيف الذي يمنح هذه المقاطع لحنًا خاصًا.
“أحبّه! أحبّه! لا أخفي ذلك ولا أنكره
حتى لو قطعوا كل شاماتي بالسكين”
“خذني بين يديك أولًا ثم ضمني
بعدها أدر وجهي وقبّل شاماتي واحدة تلو الأخرى”
لا تقول نساء البشتون شعرًا صوفيًا، ففي مجتمع ذكوري قاسٍ، يحتكر فيه الرجال كل السلطات، وينوء كاهل المرأة بكل الأعباء، يصير المتنفس الوحيد هو الغناء، لا تركن النساء إلى فلسفة، أو علوم، بل إلى ما تمنحه الجبال والفطرة الأولى.
فالقصيدة القصيرة جدًا تقع في بيتين يأتي الأول وفق 9 مقاطع لفظية، بينما يأتي الثاني وفق 13 مقطعًا، تُخلق من الينابيع وحمل الجرار. المقاطع الملاصقة للحياة.
يتميّز شعر نساء البشتون بعاطفته الصادقة، هو شعر حسيّ خالص.
في مدينة مثل كابل تُسدِل أمتارًا من القماش فوق أجساد النساء، تظل المرأة حبيسة الجسد في تغريبة حقيقية، لذلك لا تجد بدًا من تعريته ولو حتى بالشعر والغناء، تطلقه من سجنه ليرقص حرًا خفيفًا. بعيدًا عن الحيّز المسموح لها بالتحرك من خلاله؛ ألا وهو الرجل.
“خفيّة أكتوي، خفيّة أبكي
أنا امرأة الباشتون التي لا تقدر الإفصاح عن حبّها.
أملك أساور لا ألبسها
منذ أن التحقت بحبيبي، ذراعي عاريّة دون حليّ”
تطورت المواضيع في الأغاني الجديدة، لكن ما يلاحظ كيف غطت جناح الحرب صوت الشعر، وصار اليأس ملاصقًا للأنغام.
فالمنفى، القتال، البشع الدميّم، الحبّ.
هو ما بقي واضحًا وجليًّا لدى هؤلاء النسوة.
حلَّ الربيع، الأوراق تنبت على الغصون
لكن في بلادي، فقدت الأشجار أغصانها تحت وابل رصاص الأعداء.
“إذا لم تحمل جرحك في صدرك
لن أبالي حتى إذا ثُقب ظهرك مثل مصفاة”
افتح ثغرًا في الحائط، قبّلني على الشفة.
البشع الدميم، بناه وسيتمكن من ترميمه.
“إذا لم تعرف كيف تحبّ
لماذا أيقظت قلبي النائم؟”
وهكذا تمثل المرأة الباشتونية، صورة للمرأة النقية، الشفيفة، الساذجة، الماكرة.
هنا تكمن ذروة المرأة المنفية، أمنيتها الوحيدة الرجوع إلى الجبال، إلى القرى، لجلب الماء، والمزيد من الأغاني..
وأخيرًا تقول امرأة باشتونية:
“ًفي يدي وردة تذبل
لا أعرف لمن أعطيها في هذه الأرض الغريبة”!
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج