Site icon مجلة طلعنا عالحرية

أرملة دمشق تفوّت الحافلة / علاء عودة

الحُشودُ متدافعةٌ بانتظارِ باص النّقل الدّاخليّ قُربَ مكانٍ يُشبِهُ دمشقَ القديمة، لكنّني أراه للمرّة الأولى، في مشهدٍ أشبهُ بتدريبٍ عامٍّ على يوم القيامة. للمكانِ تقاطيعُ دمشقَ القديمةِ نفسُها: الطّرقُ الحجريّة، والمحالُّ الّتي تحاولُ أن تظهرَ منتظمةً للعيانِ ولكنَّ شيئًا في عشوائيّتها ذو جمالٍ واقعيٍّ أكثر من الانتظام، لمْ أعُد أذكرُ إن كانت مغاليقُ هذه المحلّاتِ مصبوغةً بالْعَلَمِ أمْ لا. لُهاثٌ وروائحُ عطِنةٌ وضجيجُ سُبابٍ من ذلكَ النّوعِ الّذي لا تفهمُ منهُ كلمةً واحدةً ولكنّكَ توقنُ أنّهُ سُبابٌ دونَ أن تفكّرَ مرّتين.

لا أذكرُ لماذا أنا هنا الآن، لسْتُ متأكّدًا كم السّاعةُ ولا ما تاريخُ هذا اليوم، لكنّه يومٌ في غايةِ الصّيفيّة دون أدنى شكّ؛ الجوُّ العام في الحركةِ نهاريٌّ، بل أشبه بأثقلِ ساعاتِ الظّهيرة، لكنّ لونَ السّماء الّذي بدأ إظلامهُ يؤكّدُ أنّنا في الدّقائق الأولى بعدَ غروب الشّمس. يمرُّ باصٌ قديمٌ غريب الشّكل –أقربُ إلى الـ”هوب هوب” منهُ إلى الباص- ولكنّني لا أعيرُ الأمرَ اهتمامًا أكبرَ من حجمهِ؛ كوننا اعتدنا أن نرى حافلاتٍ جديدةً كلّ يومٍ تعملُ في غير خطوطها المعتادة، المهمّ أن نصل إلى أماكننا، غيرَ أنّني لستُ متأكّدًا من وجهتي اليوم.

في اللّحظةِ الّتي لاحَ فيها الباصُ من البعيد، تزاحمت الرّؤوس والجذوع والأذرع والأرجل، كأنّها كلٌّ على حدة، ولستُ واثقًا من أنّ العدد الإجماليّ للأذرع أو الأرجل سيكون قابلاً للتّقسيم على اثنين. رغمَ الضّجةِ العارمة المعتادة، كان الشّيء المميّز في هذا المشهد هو خلوّه من أصوات الحرب، فلا أصواتَ لطائراتٍ أو اشتباكات. من آخر الشّارع تظهرُ راكضةً، امرأةٌ ذاتُ شعر أشيبَ أنيق، ترتدي رداءً أسودَ لا يقلّ أناقةً عن شعرها، كأنّها أرملةٌ خارجةٌ للتوّ من إحدى لوحاتِ القرن الثّامن عشر أو التّاسع عشر. أثناءَ عدوِها اللّاهث من أجلِ إدراكِ الباص، ترتطمُ بسيّدةٍ بدينةٍ في عباءةٍ رثّة؛ من هولِ الارتطام وصوتِ دويّهِ الّذي كان أضخمَ من أن ينتُجَ عن ارتطام بشريّين، يلتفتُ الجميعُ، وأنا –الّذي كنتُ أتابعُ السيّدة السّافرة الأنيقة من أوّل الشّارع بعينيّ- من بينهم، نلتفتُ إلى مصدر الصّوت، وفي صورةٍ بالغةِ الغرابةِ بالنّسبة لهذا المشهدِ اليوميِّ المعتاد، نرى السّيدة الأنيقة وقد قُطعتْ يداها من الرّسغين إثرَ الارتطام ووقعتا على الأرض في بحيرة دماء، وذراعاها تقذفان الدّم في تواترٍ لدمٍ ينفر من عنق شاةٍ نُحرت للتّو.

تنظرُ السّيدة في العباءةِ الرّثةِ بعيني من يحذّرُ شخصًا دفعهُ للتوّ من أن يعيد الكرّة، ثمّ تمضي خارجَ المشهد؛ تتلوّى السّيدة الأنيقة على رصيف موقف الباص من الألم وسط بحيرة دمها. يعمُّ الذّعرُ بنسبةٍ معقولةٍ كردّ فعل على هذا المشهد في أيّام كهذه: يا إلهي! وصلنا إلى مرحلةٍ تسقطُ فيها يدان بشريّتان لمجرّد الارتطام؟! هذا غير قابلٍ للتّصديق منطقيًّا، كان من المنطقيّ أكثر أن تسقط اليدانِ بعد بترهما بحدّ ساطور قائدِ ميليشيا ما كعقابٍ إلهيٍّ لصاحبهما على السّرقة!!

يفغرُ الجميعُ أفواههم ذهولاً، ومن العدمِ يُخلقُ شريطٌ أصفرُ يحيطُ بمسرح الجريمة –إن صحّت تسميتها بذلك- دون أن يقوم أيّ شرطيٍّ بتنصيبه. يطولُ نفورُ الدّم من ذراعي السيّدةِ الأنيقة أكثر من المعقول، ما خرجَ منهما من الدّم حتّى الآن أكثر ممّا قد تحتويه أجساد رجالٍ خمسة!! يبدأ الحاضرون بالتّململِ والانصرافِ شيئًا فشيئًا حتّى يصبح الحشدُ أصغر من أن يُسمّى حشدًا، أُراقبُ شخصًا يظهرُ وسطنا من العدم وفي يديهِ منشفة يعطيها للسّيّدة الأنيقة فتلفُّ بها ذراعيها الأبترين، ثمّ تنهضُ وتنصرفُ وحيدةً وعلى وجنتيها آثارُ دموعٍ جافّةٍ أقلُّ من أن تكون ناتجةً عن هذه الحادثة…

ثمّ أتذكّر: تبًّا!! أنا في موقفِ الباص الخاطئ!، فأعدو مسرعًا إلى الموقفِ في الشّارعِ الموازي قبل أن يفوتني الباصُ المنشود…….. ثمّ أستيقظُ مذعورًا ولا أستطيعُ العودة إلى النّوم.

Exit mobile version