مجلة طلعنا عالحرية

أرض الكلام / ماهر مسعود

لم تفارق مخيلتي مشاهد فيلم “وداعاً لينين”، وأنا أرافق أمي المصابة باللوكيميا في مشفى البيروني في دمشق عام 2011. أمي التي كانت تعيش ألمها بصمت، وتراقب انطفاءها بصمت، رحلت في ذلك العام الذي بدأت فيه سوريا تنتفض، وتخرج عن صمتها.

في الفيلم، قام الأولاد بالمستحيل لكي يخفوا عن أمهم المصابة بمرض عُضال انهيار جدار برلين، وانهيار النظام الشيوعي الشمولي في ألمانيا الشرقية معه، فقد أرادوا أن ترحل أمهم دون أن ترى، أو تعرف، أن عالمها الذي كانت جزءاً عضوياً منه ينهار. أما نحن، أولاد الخوف، فقد كنّا نلعب مع أمنا لعبة الإخفاء المتبادل، كنا نخفي عنها، بطريقة تبدو ساذجة، طبيعة مرضها، وطبيعة ما يحدث في سوريا، وكانت تخفي عنّا أنها تعرف وتستشعر الأمر، كنّا نعرف وتعرف أن مرضها قاتل، وأن مرض سوريا بنظامها المتوحش مخيف كالسرطان. كانت تستمع ليلاً بوجل لصوت الرصاص من نافذة غرفتها في المشفى، الذي لا يعني سوى أن دمشق تحت الرصاص. هي تخفي مخاوفها ونحن نبادلها الإخفاء، لكن الأمل كان يعجن الخوف ليظهر إلى السطح، والموت كان هو الطريق، وهو المعبر إلى عالم آخر لم نكن لنعرف عنه شيئاً.

عندما رحلت أمي في الشهر التاسع عام 2011، لم تكن تعرف أني قد فُصلت من عملي، وأن رفاقي في العمل جازفوا بتهريبي من أيدي الأمن عندما جاؤوا للقبض عليّ في مكان عملي، ولم تكن تعرف أني كنت أخرج في المظاهرات في دمشق، ولا أني أكتب في الصحف اللبنانية ضد “امبراطورية الخوف” التي بدأت تتصدع في قلوبنا، ولا أني كنت مطلوباً في الوقت ذاته لخدمة الاحتياط للمشاركة في قتل السوريين، في أسوأ فرع أمني في سوريا: فرع المخابرات الجوية، وعند سهيل الحسن (صاحب فكرة البراميل المتفجرة، وطريقة الأرض المحروقة). ما زلت أذكر كيف كان يجمعنا أثناء الخدمة الإلزامية عام 2006، ويطلب منا معلومات عن مجموعة أحزاب “التجمع الوطني الديمقراطي”، ثم يوبخنا ويصرفنا لأننا “جامعيون حمير” لا نفيده بشيء ذي قيمة في خدمة الوطن المخابراتية. سهيل الحسن الذي كنا نسميّه تندّراً “ساسوكي”، نظراً لجسمه الرياضي النحيل، وحركاته البهلوانية المضحكة رغم كل ما فيها من جديّة، كانت كلمته لا تصبح اثنتين عند رئيس الفرع “جميل الحسن” صاحب نظرية قتل مليون سوري لأجل سيادة الرئيس، وقاتل “غياث مطر” أجمل أيقونات الثورة السلمية…

لكني لم ألتحق وقتها، ولم أخبر أمي بشيء.

هي رحلت عن هذا العالم، وأنا بكيت حتى فاضت روحي بطعم الفقد المرير، كنت طوال عمري أخشى من تلك اللحظة، وأرتعب من التفكير فيها. لكن، مع رحيلها، انتبهت إلى شعور غريب رافق الحزن، شعور بالتحرر من عبء الخوف من موتي الخاص. ربما كانت تلك آلية دفاعية لاواعية لأقاوم الألم، لا أعلم، لكن فكرة الاعتقال أو الموت كنت أخشاها سابقاً بشكل مضاعف، ليس لأني “أخجل من دمع أمي” فقط، كما عبّر يوماً محمود درويش، بل لأني أخشى من حسرتها الكبيرة، هي التي أشبعتها الحياة حسرات، لم يكن لها إلانا عزاء. في ما بعد، كانت تقتلني ألماً بشكل خاص قصص الأمهات السوريات اللاتي فقدن أولادهنّ في الحرب، ففي بلد مثل سوريا، حيث القهر الذكوري نظامٌ هرميٌّ يبدأ بالسلطة، ويمر بالدين، وينتهي بالمجتمع، كانت أمهات سوريا هنّ محطّ إسقاط القهر، ومركز الصبر المديد، وبالمحصلة مركز التعويض الدافئ والاحتضاني عن الخوف والاغتراب الذي يفرضه الاستبداد المنتشر في هواء البلد ومائه وترابه.

في سن العاشرة، شكاني مخبر صغير في المدرسة للمدير، وأعطاه رسالة مزيفة قال إني كتبتها لزميلتي، حبيبتي وقتها، ومعروف أن مدارس البعث كانت مصانع للمخبرين والوشاة الذين تُكافَأ وشايتهم بأن يصبحوا عرفاء للصف. وعندما أرسل المدير خلفي إلى غرفة الإدارة للتحقيق، كان يهددني بالشرطة التي كانت للمصادفة فعلاً، موجودة في البلدة وتظهر من شباك الإدارة بشكل واضح، واعترفت بكل شيء أمام ضحك الأساتذة وخوفي، وبالفعل لم أعد إلى الكلام معها أبداً، لكنني تعلمت من وقتها أن الحب ذنب، وأنه مُراقب من السلطة، وأن الاعتراف ليس خلاصاً، بل وقوعاً في فخ الخضوع والخوف وانعدام القيمة، لذلك أصبحت السرّية عندي شكلاً من أشكال التمرد.. كل شيء كان سرياً في “سوريا الأسد”: الأحزاب سرية، والحب سرّي، والقهر سرّي؛ هو تعاقد اجتماعي على الإخفاء، إخفاء الواقع وحجبه وإظهار آخر مغاير له. الواقع المحجوب كان هو الواقع المطلوب من السلطة دائماً الاعتراف به وعنه، والخبرة الأهم في سوريا أن الجميع مذنب حتى “يعترف” ويثبت براءته، الضمائر منهكة من حجم الكبت وحجم المراقبة الذاتية قبل الكلام وبعده وأثناءه. تلك الثقافة السريَّة الملعونة هي التي انفجرت عام 2011، وهي المارد الذي ما زال يستعصي على الإعادة إلى القمقم؛ رغم كل الحرب والقتل والتدمير، بعد خروجه العظيم.

ربما فشلنا يا أمي، وتكسّرت ثورتنا وحاصرها الظلام، وتشتتنا في بقاع الأرض، لكننا لن نعود إلى إمبراطورية الصمت القديمة. هل تتخيلين معي ما أصعب الكلام، وما أكبر أثمانه في عالم يريدنا أن نصمت؟ فأنت عرفت وخبرت جيداً معنى الصمت وقهره. أظنك حزينة، ولكني أسمع صوتك في داخلي ينادي: تكلموا!.

Exit mobile version