المحامي ميشال شماس
مضى على اعتقال صديقي وأستاذي المحامي خليل معتوق أربع سنوات، لم ولن تستطيع أن تمحو طيفه من ذاكرتي، فحضوره مازال قوياً رغم ابتعاده القسري، هو بعيد بجسده في زنزانته وحيداً، لكنه قريب بطيفه وروحه.
لا زلت أذكر في إحدى ليالي صيف 1992 طلبَ منّي الأستاذ خليل أن أرافقه إلى مكتبه القريب من ساحة الشهبندر بدمشق لكتابة مذكرة دفاع عن عشرة معتقلين اتهموا بتشكيل “لجنة الدفاع عن حقوق الإنسان في سوريا”، كان يتلو عليّ نص المذكرة، وأنا أخطها حرفاً حرفاً وكلمة كلمة على آلة كاتبة صغيرة، وكان الخوف يتسلل إلى نفسي مع كلّ كلمة كنتُ أخطها لما فيها من جرأة غير معهودة في الدفاع عن هؤلاء العشرة، ومع الوقت بدأ الخوف يتلاشى رويداً رويداً بعد أن اندمجت كلياً في روح تلك المذكرة التي فتحت عيوني وعقلي على ما يعانيه أصحاب الرأي الحر والكلمة الحرة.. وضرورة الوقوف معهم ومساندتهم والدفاع عنهم..
أربعة أعوام مضت على اعتقال صديقي واستاذي دون أن يبرح مخيلتي، يأتيني في المنام، يحدثني.. يناقشني في قضايا المعتقلين.. لم أستطع أن أنساه، وكيف لي أن أنساه وهو الذي فتح لي مكتبه وقلبه وأخذ بيدي في مهنة المحاماة، وزادني بعلمه وخبرته الكثير الكثير؟ وحتى عندما نلتُ لقب أستاذ في المحاماة لم أستطع الفكاك عنه، فبقيت في مكتبه، تقاسمتُ معه عمل المكتب وانخرطت معه في قضايا الدفاع عن حقوق الإنسان السوري وحرياته..
في العام 2000 أعلن نهائياً تفرغه للعمل في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان بعيداً عن أي عمل سياسي، فكان قراره اعتزاله العمل السياسي، بعد أن شعر أن اشتغاله بالسياسة سوف يضعف من حماسته في الدفاع عن حقوق الإنسان السوري ويضعف من استقلالية موقفه، وقال حينها: “إن العمل في مجال حقوق الإنسان يجب أن يكون منزهاً عن أي ميل أو هوى في السياسة لأي اتجاه كان”. وفتح قراره الهام باعتزال العمل السياسي لصالح التفرغ التام للعمل في الدفاع عن حقوق الإنسان في سورية، الطريق أمام تعزيز عمل المدافعين عن حقوق الإنسان.
ومع انطلاقة ربيع دمشق بعد موت الأسد الأب وخلافة ابنه بشار الحكم، وانتشار المنتديات السياسية في مختلف المحافظات السورية، كان أبرزها في دمشق منتدى الأتاسي، و”مركز حقوق الإنسان” الذي أنشأه الأستاذ خليل معتوق في منزله، لكن لم يمض شهران على فتح ذلك المركز حتى بادرت السلطات السورية إلى إغلاقه وجميع المنتديات الأخرى، في حملة أمنية غير مسبوقة طالت أبرز نشطاء المجتمع المدني في سورية، حيث تم اعتقال العشرات في مقدمتهم الأستاذ رياض الترك والأستاذ حبيب عيسى والدكتور عارف دليلة وغيرهم، وتمت إحالتهم إلى محكمة أمن الدولة العليا، وهنا انبرى الأستاذ خليل معتوق مع ثلة من المحامين للدفاع عنهم بكل قوة وعزم.
وكان للمحامي خليل معتوق دور بارز في الدفاع أيضاً عن مجموعة معتقلي إعلان دمشق بيروت- بيروت دمشق، وفي مقدمتهم المحامي الأستاذ أنور البني والشهيد مشعل تمو، هذا الإعلان الذي دعا إلى إعادة تصحيح العلاقات بين سوريا ولبنان.. وبينما كانت المحاكمات جارية في القصر العدلي بدمشق، شنت السلطات السورية حملة اعتقالات واسعة طالت عدداً من قيادة التجمع الوطني لإعلان دمشق إثر اجتماع عقدوه في دمشق، مما دفع بالمحامي خليل معتوق إلى بذل جهود حثيثة من أجل تنظيم الدفاع عنهم مع عدد من المحامين الذين تطوعوا للدفاع عنهم، من بينهم كاتب هذه السطور والمحامون حسين عيسى وجيهان أمين والمحامية رزان زيتونة والمحامي ناظم حمادي اللذين خطفا في دوما منذ ثلاث سنوات وغيرهم.
ومع بداية الثورة السورية ازداد الضغط على الأستاذ خليل معتوق ورفاقه الذين ضاعفوا من جهودهم نظراً للأعداد الكبيرة التي كان يتم اعتقالها يومياً على خلفية التظاهرات والاعتصامات التي كانت تشهدها البلاد. واستمر الأمر على هذه الحالة حتى تاريخ 2/10/2012 عندما فوجئنا بخبر اعتقال المحامي خليل معتوق مع صديقه محمد ظاظا بعد خروجه من منزله بصحنايا متجهاً إلى مكتبه الكائن بدمشق. ليتحول من مدافع عن المعتقلين إلى معتقل يحتاج إلى من يدافع عنه.
خليل معتوق هذا المحامي الإنسان الذي يمثل ضمير كل سوري وسورية، وكل إنسان يتطلع نحو الكرامة والحرية، هذا الإنسان الذي انحاز منذ نعومة أظفاره للدفاع عن المظلومين والمضطهدين، وهو الذي أمضى أكثر من عشرين عاماً في طريق معركة الدفاع عن معتقلي الرأي والضمير، ساهم خلالها مع العديد من رفاقه في الدفاع عن آلاف من المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي والضمير من شيوعيين وناصريين وإسلاميين وبعثيين ونشطاء حقوق إنسان، هو الآن يحتاج كعشرات الآلاف من المعتقلين إلى دعمنا جميعاً.
خليل معتوق وزملاؤه المعتقلين من زنزاناتهم وكل المؤمنين بحرّية الشعب السوري مستمرون في النضال ضدّ الاستبداد والطغيان لم ولن يتوقفوا، حتى يتحرر كل المعتقلين وتتحرر معهم كل السوريات والسوريين.
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج