علي الدالاتي – إدلب
“كان علي الاختيار بين توثيق الغارات الجوية أو مساعدة عائلتي للنجاة من تلك الغارات” ما سبق كان جواب عن سؤال وجّه لي بمناسبة الذكرى السادسة للتدخل الروسي المباشر في سوريا. عندما وجّه لي السؤال فكرت كثيراً وأنا أعود بشريط ذكرياتي، ولكن اخترت ذاك الموقف كونه في تلك اللحظة كان علي أن أتخذ قراراً من أصعب القرارات التي اتخذتها في حياتي، وسط ضغط هائل، وقصف عنيف، وصراخ الأطفال والنساء خوفاً من الغارة الأولى بعد المئة التي تسقط فوق رؤوسهم.
ففي نهاية عام 2016 كانت الحملة على وادي بردى تدخل أسبوعها الثاني، كان تركيز الحملة على قريتنا “بسيمة” حيث كان يقبع أهلي في أحد الأقبية، ولكن الأقبية لم تعد تفي بالغرض، فكان القرار بالخروج. كان القبو يفرغ كل ليلة من بعض العوائل التي تحاول النجاة، حتى أتت تلك الليلة حين عدت لأهلي لأجدهم بقوا مع عدة عائلات. حينها طلبوا مني إنقاذهم والخروج بهم لمكان أكثر أماناً أو أقل خطراً؛ ففي تلك اللحظات كان النظام يقصف كل قرى المنطقة ولكن بوتيرة مختلفة.
وقتها كان علي الاختيار بين واجبي الإنساني بإنقاذ عشرات الأطفال والنساء -ضمنهم عائلتي- وإخراجهم من القرية، أو إبقائهم في القبو، والذهاب لواجبي كناشط إعلامي بنقل الحدث وتوثيقه. كان علينا اتخاذ القرار وسط سيمفونية من أصوات هدير الطائرات وانفجار القنابل.
قطع تفكيري باتخاذ القرار صوت برميل متفجر وقع على البناء المجاور للقبو القابعة فيه عائلتي، يومها كانت القصة باختصار هي اختيار أقل الضررين؛ إما إنقاذ عائلتي وعدم التوثيق، أو الاستمرار بالتوثيق وربما تكون عائلتي هم ضحايا المجزرة المقبلة التي عليّ توثيقها!
الأبناء وأصعب الخيارات
لم تكن حال العمّ أبو معتصم مع الخيارات أفضل مني؛ فعندما رأيته للمرة الأولى وهو يلاعب أحد الأطفال بجانب خيمته في مخيم أطمة على الحدود السورية التركية، قرأت في وجهه السبعيني من القهر ما يكفي للبكاء الدهر كله، ولكن ابتسامته لنا ودعوتنا لشرب الشاي بجواره شجعتاني لسؤاله عن سبب حزنه وقهره، ليروي قصته التي بدأت عام 2012، حينما اعتقلت قوات الأمن ابنه الأصغر “مهند” من السكن الجامعي في مدينة حلب، حيث كان يقيم، وبعد أن وصله الخبر قام بالتواصل مع عدد من معارفه للإفراج عن ابنه الذي لم يكن له أي نشاط سياسي، بعكس أخيه الذي انضم للجيش السوري الحر، ليأتيه بعدها الجواب الصادم أن مهنداً معتقل بدل أخيه معتصم؛ حيث اشترطت قوات الأمن عليه أن يقوم ابنه الأكبر معتصم بتسليم نفسه لهم مقابل الإفراج عن مهند، وإلا لن يخرج مهند من السجن!
ليعقد هناك أمره أنه لن يسلم ابنه بيده للموت، وأن ابنه الثاني “له الله”، ولكن حكاية أبو المعتصم لم تتوقف هناك؛ ففي عام 2015 قتل ابنه في معارك بريف حلب بين الجيش السوري الحر وقوات النظام، ليبقى لديه أمل في خروج ابنه مهند بعد مقتل أخيه، ولكن هذا الأمل زال بعد أن رأى صورة جثة ابنه مهند ضمن صور قيصر.
قلب الأم المقسم عبر الحدود
“كنت أتمنى أن يكبر أبنائي ليرتاح قلبي من القلق عليهم، ولكن عندما كبروا قسموا قلبي عبر الحدود” كانت أم محمد تهمس بتلك الكلمات وهي تحاول إخفاء دموعها عن كاميرا الجوال التي تكلم بها ابنتها التي بقيت في ريف دمشق، بينما خرجت الأم بقوافل التهجير القسري من ريف دمشق إلى إدلب.
باكية، حزينة، مقهورة خرجت أم محمد من منزلها بالغوطة الشرقية نحو إدلب، بعد أن تركت أربعين عاماً من الذكريات في ذاك المنزل، وابنتها الوحيدة التي بقيت هناك مع زوجها وأطفالها.
كان خيار أم محمد صعباً؛ فإما مرافقة ابنيها في رحلتهم لإدلب ضمن قوافل التهجير القسري، أو البقاء بعيدة عنهم في مسقط رأسها وبجوار ابنتها. بحسب أم محمد لم يكن القرار سهلاً أبداً عليها؛ فقد تتمنى الموت بدل الوقوع في ذاك الاختيار، ولكنها قررت أخيراً مرافقة ولديها، لتلقي نظرة الوداع التي ربما تكون الأخيرة على منزلها وابنتها، وتركب في رحلتها لإدلب، التي ستضطر فيها مجدداً للاختيار بين ابنيها اللذين استقر أحدهما في إدلب، وقرر الآخر أن يخرج إلى تركيا، وعليها أن تختار الآن بين إدلب وتركيا؛ والأصح بين فلذات كبدها الذي قسمته عبر الحدود.
يبدو أن الخيار بين السيء والأسوأ قد أصبح خيار السوريين الدائم؛ حتى بات على أم محمد وأبو المعتصم وعلى ملايين السوريين اختيار “أخف الضررين” يومياً، وبكافة أمور حياتهم، فغالبية قراراتهم تندرج بين السيء والأسوأ؛ فالظروف التي يعيشها الشعب السوري بسبب سكوت العالم عن مقتلة امتدت لعقد كامل على يد النظام وحلفائه، أوقعت السوريين في لعبة الخيارات التي عليهم اختيار أقلها ضررأً.
ورغم كل ذلك فإن أبو المعتصم يرى أن هناك قضايا متجذرة لا تخضع للاختيار، كالتخلي عن الثورة أو التوقف عن المضي في دروب التحرر والحرية، أو القبول بتعويم نظام الأسد، أو السماح بإفلات قتلة الشعب السوري من المحاسبة؛ فتلك القضايا لديه هي “من المسلمات التي لا خيار فيها إلا ذاتها عبر المضي فيها حتى النهاية”.
صحفي سوري مقيم في إدلب، يدرس في كلية العلوم السياسية
مهتم بقضايا حقوق الإنسان والتهجير القسري في سوريا