كنّا نمرّ على بعض ذكريات ما قبل الثورة وأولها.. نجمّع نتفاً من ذاكرة لا تذوي وتزداد نضارة كلما ابتعدت..
وكلما برق اسم من (الشلّة) القديمة تتبعه عبارة: (الله يفكّ أسره) أو (رحمة الله عليه).. وفي حالات أقلّ تكراراً وأقلّ إيلاماً: (الله يرجعه بالسلامة).
يقطع أبو مرشد الصمت البارد الذي أثقل الجلسة ويلتفت إليّ مبتسماً وكأنه اكتشف شيئاً فجأة: “ما بقي لي غيرك”!
يومها حاولت أن أردّ بشيء يواسينا معاً، أردت أن أقول له سيعود يحيى وفادي وسامر وناصر ووائل ورزان… لكن صوتي خذلني وغاب، وغصصت مبتلعاً ارتباكي أمام عذوبة بوحه…
عدة أسابيع ولازال يغمرني دفء هذه الجلسة الذي أضواه أبو مرشد بحضوره الشفاف.
…
عدة أسابيع..
وبينما نتساءل عن سرّ هيجان الطيران والقصف المدفعي من جديد، ونحاول أن نعرف المكان من الغوطة الشرقية الذي يستهدفه القصف والصواريخ. يباغتني خبر رحيل أبو مرشد نتيجة إحدى الغارات.
وصل الجواب: كل القصف استهدف قلبي.. وأصاب!
أسرعت للمكان متأملاً أن أراه يقوم -كما فعل في كل مرة- من تحت الأنقاض، يبتسم وينفض الغبار عن ملابسه.. وعن آمالنا.
…
رغم كل المخاطر التي مرّ بها هادئاً وهازئاً، لم يخطر لي قبلاً أن فقدانه (هو أيضاً) سيكون بهذه السرعة، وبهذه الطريقة.
…
تتقاطر الذكريات والأفكار في ليالي (ما بعد أبو مرشد). ألوكها -بلا قلب- ولا أسلو.
أتذكر اليوم الذي جاء فيه ليأخذنا -تحت القصف أيضاً- من طرف الغوطة الشرقية إلى داخلها، والسيارة التي اختارت أن تتعطل في مرمى القناص بالضبط!
أو تفاصيل من أيام لذيذة رافقته فيها لننقل مكتبة من (خط الجبهة) إلى مكان أقل تعرضاً للقصف. فأبو مرشد كان يعرف في حرستا مستودعاً ضخماً للكتب، وبعد تحرير المدينة حرص كل الحرص على ضمان سلامته. ولأنه اعتبر نفسه المسؤول عن هذه (الأمانة)، ظلّ يتردّد على المجموعة المرابطة عنده ليتأكد أن الكتب لن تتعرض للنهب أو للحرق (ربما للتدفئة!). وبقي مهموماً بتأمين الكتب من أخطار القصف وإبعادها عن خط التماس.
أردت أن أساهم في عملية نقل الكتب وتأمينها. حددنا موعداً صباحياً.
واعتباراً من الموعد وعلى طول عشرة أيام صيفية كنا نلتقي بعد طلوع الشمس بقليل، وتبدأ رحلتنا إلى مكان المستودع دون أن تنتهي.
يفضل أبو مرشد المشي لقضاء مشاويره وحاجاته، خاصة مع ندرة البنزين وغلائه. ربما أمضى يوماً كاملاً يتنقل ماشياً بين قرى وبلدات الغوطة الشرقية؛ حمورية إلى مسرابا وحرستا ثم دوما وهكذا كل الطريق ذهاباً وإياباً.
لا يمرّ بنا شخص صغير أو كبير، رجل أو امرأة إلا يقف أبو مرشد ليحدثه ويسمع منه. يسأل عن الصحّة والحال، يترحم على شهداء العائلة وموتاهم ويذكر محاسنهم. ثم يسمع ويستمع.. ثم يسمع ويستمع! دون أن يملّ أو يتململ. يعرف تفاصيلً عجيبة عن عائلاتهم، يتكلّم مع الأطفال كصديق لهم ويحفظ أسماءهم وكناهم، وكذا مع الشيوخ والشباب الناشطين والمقاتلين. يألفه الجميع ويعتادون على استماعه الصبور لهم، يشتكون له الأوضاع العامة والخاصة. وهو لا يدّخر جهداً لمساعدة أي كان في أي شيء مهما كان صغيراً أو صعباً.
في أكثر من مرة تغيب شمس يوم طويل لأكتشف أنه على لحم بطنه منذ أمس! متعجلاً شهر الصيام الذي أدركنا دون أن ننقل كتاباً واحداً!
…
أبو مرشد المثقف والسياسي المخضرم ينتمي للناس، يدعمهم، يقدّر صمودهم، يعذر ضعفهم، لا ينسى تضحياتهم، يحيّد أفكاره عندما يسعى في خدمتهم… كلهم. هو شخصية عامة وعمومية. نكرانه لذاته يتعب أصحابه. يضحّي ويستمرّ في البذل ولا يجزع. عيناه على الأفق البعيد، يمضي مترفّعاً عن الصغائر.. والصغار.
الكبير أبو مرشد، تليق به الشهادة.. ليتابع سموّه.. (هناك)!!
ناشط وصحافي، رئيس تحرير مجلة طلعنا عالحرية، ومدير مكتبها في دوما / الغوطة الشرقية سابقاً، إجازة في الآداب من جامعة دمشق قسم اللغة الإنكليزية، مدير مكتب الحراك السلمي السوري في ريف دمشق.