ثقافة

أبطال إبراهيم صموئيل بين قمع الواقع وإنسانيّة المواقف

ياسمين نهار

القصّة القصيرة هي أن يأخذ الكاتب شريحة من جسد الحياة، أو قطعة منها، ويضعها تحت مجهره الخاصّ بعد أن ينفخ فيها من روحه؛ فتأتي هذه الشّريحة الصّغيرة معبّرة عن الحياة برمّتها، بأفراحها وأتراحها، بهمومها ومشاغلها.
“اتخذها الأدباء في الغرب للتّعبير عن وحدتهم ووحدة الإنسان في غابة الحياة الماديّة التي لا ترحم، واستخدمها الأدباء في الشّرق للتّعبير عن تلك اللّحظة التي يقرع فيها سوط الظالم ظهر المظلوم، وتُنزع اللّقمة من فم الجائع، وتنشب فيها مخالب الذئب في صدر الضّحية” على حدّ تعبير الدّكتور عبد الكريم الكردي.
حين قرأت “رائحة الخطو الثقيل” وهي المجموعة القصصية الأولى لإبراهيم صموئيل الصّادرة عن دار الجندي للنّشر والتّوزيع عام 1988 خطر على بالي قول شهير لـ”بابلو نيرودا” يوجز فيه نظرته إلى الحياة فيقول: “أنظرُ إلى الحياة بمنظار دراماتيكي؛ الشيء الذي لا يمسّ عاطفتي لا يعنيني”، وصموئيل قاصّ برع في تحريك العواطف وإثارة المشاعر الإنسانيّة؛ ربّما لأنّ شخوص قصصه يشبهوننا إلى حدّ بعيد، يتقاسمون معنا الحصص الكبرى من القمع والفقر والخوف.
وليس بخافٍ علينا أنّ العمل الأوّل للمبدع يكون بمثابة تذكرة عبور تسمح له أن يدخل عالم الكتابة، أمّا التّجديد والإضافة فيأتيان في الأعمال اللّاحقة، إلّا أنّ كاتبنا قدّم لنا منذ مجموعته الأولى “رائحة الخطو الثّقيل” تجربة ناضجة مكتملة.
في قصصه يتجاور الحبّ والألم من جهة، والانكسار ودفق العاطفة من جهة ثانية، والمبادئ الإنسانية السّامية وحالات الضّعف الإنسانيّ من جهة ثالثة.
إبراهيم صموئيل كاتب وقاصّ سوري من مواليد دمشق عام 1951، درس في جامعة دمشق قسم الدّراسات الفلسفيّة والاجتماعيّة، له أربع مجموعات قصصيّة هي “رائحة الخطو الثّقيل، النّحنحات، الوعر الأزرق، البيت ذو المدخل الواطئ”.
لم يسعَ وراء غزارة الإنتاج لأنّ همّه نوعيّة الكتابة وليس كميّتها، يقول: “مازلت مخلصاً لوعد قطعته وعاهدت نفسي عليه؛ ألّا أكتب سطراً واحداً في قصّة إذا لم يكن من دمي وروحي وإحساسي وحاجتي للكتابة. وإن لم أشعر بحاجة ماسّة لكتابة قصّة لا أكتب” وبرأيي لا تقاس موهبة القاصّ بغزارة إنتاجه؛ وإنّما بما يضيفه لهذا الفنّ القائم عل التركيز والتّكثيف، وأيضاً بما يميّزه عن غيره في أسلوب معالجته للمواضيع التي يتطرّق إليها.
من المهمّ الإشارة إلى تعرّض كاتبنا لتجربتي اعتقال، مع ذلك لم يوثّق تجربة الاعتقال في قصصه بشكل مباشر؛ بل تحدّث عن آثارها المتشبّثة بالروح كأخطبوط، وما تحمله تلك التّجربة من قمع لإنسانيّة الإنسان. ويبدو لي أنّه استطاع أن ينفلت من الحديث عن معاناته الذّاتيّة وتجربته الشّخصيّة حين احتضنت كتاباته الإنسان في معاناته اليوميّة -داخل السّجن وخارجه-، واحتضنت الإنسان في حياته المقنّعة المكبوتة الأنفاس، من خلال تكثيف لغويّ كشف الحقائق المؤلمة، وهو بذلك يكون قد وضع معاناة أبطال قصصه في المدار الإنسانيّ العامّ.
بهذا البعد الإنسانيّ يواجه كاتبنا السّلطة المُقيّدة والّرقابة بأشكالها كافّة. يقول ممدوح عدوان في تقديمه لمجموعة “رائحة الخطو الثّقيل”: “ما يلفت الانتباه في هذه المجموعة من القصص القصيرة التي تنزف بفعل السّياسة، أنّها تخلو من كلمة سياسة واحدة. أنّها خالية أيضاً من مشاهد التّحقيق والتّعذيب والضّعف، أو البطولة، أمامهما” فقصص إبراهيم صموئيل أوسع وأعمق من أن تُحدّد بمذهب أيديولوجي؛ إنّها قصّة الإنسان المشغول بالرّاهن، المنصت إلى عمقه الإنسانيّ، فقد رصدت كتاباته الضّيق والخيبات والتّناقضات الحادّة التي يعانيها الإنسان المقموع المقهور داخل السّجن وخارجه.
في قصّة “الزّيارة” ثمّة طفلٌ كغصن غضّ حُكم عليه أن يكبر بعيداً عن الأب الشّجرة، وثمّة شوق وكلام مهمّ لزوجة تودّ أنّ تقوله لزوجها المحكوم عليه بالسّجن، وخلف بابين من القضبان يتعذّر على الأب إيجاد وسيلة للتواصل مع ابنه؛ فلا الفرع يلتحم بالشّجرة، ولا الحديث ينجو من أسياف الوقت.
ويمكننا أن نتوقف أيضاً عند قصّة “سعد”، وهو معتقل أدمن استحضار الذّكريات ليبعد عنه وحشة الّزنزانة. وخيالاته تحمله هذه المرّة إلى لقاء “المقبرة”! نعم فقد التقى بحبيبته “عناد” في المقبرة -يوم عصف به الشّوق- غير آبهٍ بأشباح الموت، لأنّ ثمّة أشباحاً كانوا يجوبون ممرّات المدينة بحثاً عن المطاردين الحالمين بالحبّ والحريّة.
ولئن نجح سعد وعناد في تدبير لقاء -ولو في المقبرة- فإنّ وقع الخطوات الثّقيلة لأحدهم، أو ربّما المخاوف منعا لقاء سلمى بزوجها المُلاحق والمتخفي عن الأنظار، والحقيقة أنّ إبراهيم صموئيل في قصّة “رائحة الخطو الثّقيل” قدّم لنا “لوحة قلميّة” على حدّ تعبير “يحيى حقّي” اعتمدت على عنصر التّصوير وجعلت الحدث في خدمته.
ومن اللّافت للنّظر النّزعة الإنسانيّة في قصص صموئيل، وتركيزه على الأشياء البسيطة الحميمة، ومنها رسالة مكتوبة بخط دقيق اكتشفها بطل قصّة “العيون المشرعة” على ورقة نقدية أرسلتها له زوجته إلى السّجن، وهنا يقع البطل في صراع هل ينفق المال من أجل شراء أبسط مقوّمات النّظافة له ولزملائه، نظراً للحاجة الماسّة لها، أم يحتفظ بالقطعة النّقديّة لأنّه رأى زوجته تقطن في حروف الرّسالة المكتوبة على القطعة النّقديّة؟ بعبارة أخرى: هل تنتصر الضّرورة على الأحاسيس والمشاعر في الأقبية المعتمة؟!
ومن الملاحظ أنّ إبراهيم صموئيل لا يصوّر لنا عالماً متكاملاً، بل يعتمد على نقطة ارتكاز واحدة، ونقطة الارتكاز في قصّة “الرّجل الذي لم يعد أباً” هي الفجوة الكبيرة التي تركتها ثلاث سنوات من الاعتقال بين الأب وابنه، وكيف اتّخذ هذا الطّفل صورة والده (أباً بديلاً) أثناء وجود الأب في المعتقل وبعد خروجه أيضاً؛ لأنّ والدته عوّدته بعد اعتقال والده أن يخاطب الصّورة، ويشتكي إليها، ويطلب منها ما يريد..
والسّؤال: كم يحتاج الأهل من الوقت والجهد لترميم الفجوة بينهم وبين أبنائهم بعد تجربة الاعتقال؟ وهذه القصّة كغيرها من قصص صموئيل تسقط دلالاتها الإيحائيّة على حيوات معظم الأبناء ذوي الحالات المشابهة. أمّا قصّة “هذه المرّة” تعتمد على تكثيف الأحاسيس وتتابعها لتأتي لحظة الكشف الصّادمة في النّهاية وهي موت ابنة بطل القصّة.
ومن المهمّ الإشارة إلى ما تحمله قصص صموئيل من دلالات إيحائيّة لا تفصيليّة إلّا أنّها تدلّ على حياة كاملة كما في قصّة “الصّناديق” التي جعل فيها الكاتب الحلم امتداداً للواقع المرّ حين عرض قصّة شاب انكسرت أحلامه في وطنٍ لم يلقَ فيه إلّا الاعتقال وصعوبة العمل وتحقيق العيش الكريم.
وليس ذلك فحسب فقد تميّزت قصصه بتكثيف قابل للاتساع والتّمدّد بل قُل للانفجار في أعماقنا، ولاسيّما حين يتعلّق الموضوع بضيق العيش؛ فما أقسى الحياة حين تجبر معلّمة معطاءة على التّفكير بسرقة تلاميذها في قصّة “ليا”! لأنّ راتبها القليل لا يؤمّن الحاجات الضّروريّة، أو حين تجعل زوجة تبيع جسدها من أجل تأمين مصروف الأولاد كما في قصّة “يا فدوى”.
ومن يقرأ قصص إبراهيم صموئيل الموجزة والمركّزة يرَ أنّ كاتبنا مخلصٌ لفكرته، متّحدٌ بلغته، وبأحداث قصصه، فكتاباته تعبّر عن نبرته الخاصّة، وهو بذلك يختلف عن الرّوائيّ الذي يعتمد تعدد الأصوات وفق رأي الفيلسوف والناقد الروسي “باختين”.
رغم أنّ شخصيّات القصّة القصيرة -مهما تعدّدت- تأتي غالباً بدون أسماء صريحة، وبدون حياة كاملة، إلّا أنّ صموئيل اختار لكلّ أبطال “رائحة الخطو الثّقيل” أسماء صريحة، لأنّه أراد لها الحضور الكامل والعميق في ذواتنا، وفي وجداننا.
وبالعودة إلى قول بابلو نيرودا السّابق أؤكد على براعة صموئيل في تكثيف المشاعر والأحاسيس في قصص اعتمدت لغة مكثّفة، لذا استطاعت كتاباته أن تطرق باب القلب وتذكّرنا بإنسانيتنا الممزّقة في بلاد الحروب والنّكبات.

Click to comment

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

To Top