عبد الله شاهين
يجد كل ذي قناعة اليوم حوله من الأحداث والأخبار ما يكفي لتزيد قناعته رسوخاً. هذا يعني كذلك بأن هنالك من الأحداث والأخبار ما هو كفيل بنقض تلك القناعة أو تغييرها. أنا حقيقة لا أعلم ما سيكون مآلنا نحن السوريين في العشرين سنة القادمة. وقد كتبت في طلعنا عالحرية ثلاثة مقالات متشائمة حول الواقع السوري (1) (2) (3)، والذي لا أعتقد أن هنالك الكثيرين ممن يختلفون معي حول بؤسه. إلا أن الثابت الوحيد الذي علينا أن ندركه هو أن دوام الحال من المحال. هذا لا يعني بالضرورة أن انقلاب الحال من سيء إلى جيد هو المسار الحتمي، فهنالك دائماً ما قد يكون أسوأ. ومن هذا أنطلق لأسرد بعض البوادر التي قد تخلق فينا أملاً بمستقبل أفضل. كما سأركز في هذه السلسلة على الفرص التي علينا استغلالها لجعل التغيير يسير في صالحنا.
علينا في البدء أن نفصل ما بين التغيير المحتمل في سوريا (بمختلف مناطق السيطرة وأنواعها) وما بين التغير المحتمل في السوريين النازحين والمهجّرين. فقد تتغير منطقة ما في سوريا نحو الأفضل دون أن يتحسن واقع السوريين نتيجة هذا التغير. كما أن تحسن واقع السوريين المهجرين لا ينعكس بالضرورة على حال سوريا ككل أو منطقة ما بشكل خاص. وأخصّ الحديث في هذه الثلاثية عن حال السوريين اللاجئين والنازحين داخل الأراضي المحررة.
علينا كذلك أن نميز ما بين قضية عودة المهجرين والنازحين وما بين تحسّن الأوضاع المعيشية. هذا الربط في أذهاننا غير بنّاء ولا واقعي في الأساس. فتقديرات الأمم المتحدة توضح أن أقل من 3% من اللاجئين هم من يعود إلى دياره. ولو أمعنا النظر في سوريا لوجدنا مخيمات الفلسطينيين وقد تجاوز عمر بعضها الستين عاماً. حتى في دول وسط أفريقيا، وبعد انتهاء الحروب الأهلية الطاحنة وعودة الأمن النسبي، نجد أن الكثيرين من سكان المخيمات لا يعودون إلى بلداتهم وقراهم الأصلية. كما أن التركيز على شرط العودة هو سبب في تأخر الاستقرار وتأخير كل الجهود التي يجب أن تبذل لتحسين الواقع المعيشي لهؤلاء المهجرين النازحين. هذه الجهود عليها أن تبدأ حالاً. وعلى الدول التي استقبلت لاجئين أن تدرك أن أراضيها ستكون وطن هؤلاء اللاجئين وأولادهم.
كما يجب أن نذكر بأن مأساة السوريين لم تبدأ في 2011؛ فالفقر في سوريا ليس حديثاً، بل إن اطلاعنا على حالة الفقر هو الحديث؛ فقبل ذلك كنا نسكن في كانتونات جغرافية واجتماعية كانت تمنعنا من رؤيته حتى عندما يكون أمام أعيننا. كانت مدارسنا على الدوام تفقد أطفالها إلى سوق العمل، وكان الكثيرون منا هم الزبائن الذين يشترون خدمات هؤلاء الأطفال البائسين بأثمان بخسة، دون أن يعترض أحدنا على هذا الفعل الشنيع.
ولا مشكلة النازحين هي الأخرى حديثة العهد بنا؛ فبالإضافة إلى مئات آلاف اللاجئين الفلسطينيين حول مدننا؛ كان في سوريا أكثر من نصف مليون نازح من المنطقة الشرقية منذ عام 2006، يسكن معظمهم في الخيام وبيوت الصفيح. ما حصل هو أننا بدأنا نرى أنفسنا بشكل أوضح، ونتعاطف مع أنفسنا بشكل حقيقي. هذا لا يعني أن حجم المأساة ثابت لم يتغير، فالحرب الشعواء التي خاضها الأسد على شعبه هي التي أنتجت حالة النزوح واللجوء والدمار التي أصابت نصف سكان سوريا، وجعلت من 90% من الباقين في مناطقه تحت خط الفقر.
لكن الحراك الثوري السوري لا شك فتح بيننا قنوات تواصل وعمل وتعاطف لم تكن موجودة من قبل، وهذا مكسب مهم يحسب في رصيد الحراك الشعبي.
مكسب آخر مهم هو تفتيت الدولة الشمولية التي أقامها الأسد الأب، والتي اختطفت منا الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. تلك الدولة التي حكمت بالنار والحديد لم يعد لديها ما يسد رمق زبانيتها، ناهيك عن قدرتها على سدّ الاحتياجات الأساسية لسكان مناطقها. وكذلك الحال في المناطق المحررة حيث أن السلطات الحاكمة، والتي تحاول ما تستطيع لتثبيت سطوتها في هذه المناطق، ما زالت أضعف من أن تحوز على الحياة الاقتصادية. وبالتالي فهنالك فرص أكبر للعمل الحر والجماعي. ما زالت هنالك العديد من العوائق التي تقف في طريق بناء اقتصادات جديدة وبديلة للاقتصاد الشمولي الأسدي، وللمنظومة المافيوية التي خلقها خلال العقود الماضية.
أصبحنا اليوم في وضع ذي سقف أعلى للعمل الإنتاجي، وعلينا استغلال هذا الواقع الجديد ما استطعنا، خصوصاً في المناطق المحررة. لا أقول إن المستقبل أمامنا مشرق، لكن أقول إن في جعبتنا بعض الأدوات التي سوف تجعله دون شك أفضل مما نحن عليه اليوم.
إقرأ للكاتب أيضاً:
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج