شغلت حادثة الرجم التي نفذها داعش في ريف حماة قبل ايام لامرأة “زانية”، شغلت الرأي العام ومواقع التواصل الاجتماعي المختلفة. وأثارت الحادثة مجددا جدلاً كبيراً حول أحكام الدين الإسلامي بما يخص الزنا وحدّ الرجم مضافة إلى الممارسات الأخرى المرعبة من قطع الرؤوس وقطع اليد إلى الإعدامات الميدانية العنيفة التي تنفذ باسم الله والدين.
ولعل المرحلة المقبلة من تاريخنا وثقافتنا سوف تشهد تصاعداً متزايداً في هذا الجدل القديم الحديث، حيث اصبحنا نلمس أكثر من أي وقت مضى مدى خضوع حاضرنا لماضينا.. ومدى انحباسنا في اشكاليات الماضي القديم رغم القشرة الحداثية المشوهة التي فرضتها عملية احتكاكنا بالثقافة الغربية ومتطلبات العولمة.
وفي هذا السياق تكتسب محاولات الاجتهاد وتحديث الدين التي اضطلع بها باحثون ومؤلفون متدينون أهمية خاصة قد تؤسس فعلا لثقافة وليدة تساير العصر وتحد من العنف عبر ترسيخ قيم التسامح والديموقراطية والتعدد التي تأتي هذه المرة من داخل الثقافة الإسلامية.. ومن قلب النص الديني، لا من الخارج المكروه والمرفوض مسبقاً.. ونعني الثقافة الغربية.
وربما كانت أهم هذه المحاولات على الساحة العربية والإسلامية، وعلى الساحة السورية خصيصاً، محاولات الشيخ جودت سعيد والدكتور محمد شحرور، السوريان اللذان يعايشان يومياً تجربة الثورة السورية ويتفاعلان مع قراؤهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بعد ان قضيا سنين طويلة في البحث والتنقيب.. ونشرا عشرات المؤلفات الهامة التي لقيت اهتماماً محدوداً حتى الأمس.. وعداءً ملحوظاً من التيارات المتطرفة.
يعود الدكتور محمد شحرور للآيات القرآنية في بحوثه، ولا يعتبر الأحاديث النبوية والفقه والممارسات التاريخية مرجعاً للتفسير، إنما يعتبرها ابنة العصر الذي جاءت فيه، فيما يعتبر القرآن عابراً للعصور.
وفيما خص مسألة حدّ الرجم والزنا جاءت سورة النّور، قال تعالى:
”الزَّانية والزَّاني فاجْلِدوا كلّ واحد منهما مائة جَلْدة ولا تأخذكم بهما رَأْفَةٌ في دين الله..” النّور2
إلا أن تطبيق هذا العقاب بالجلد يحتاج إلى أربعة شهود، ويبدو أن مسألة الشهود الأربعة في الزنا تحظى باجماع علماء الإسلام وهي من شروط إقامة الحدّ، وإذا وُجِد ثلاثة شهداء يقسمون علي رؤيتهم فعل الفاحشة بين الرجل والمرأة عَيْناً، ولم يوجد رابع معهم، تمّ جَلْد الثلاثة ثمانين جَلْدة تحت باب قذف الأعراض..
حيث قال تعالى : “والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة”.
ومن ذلك نستنتج حسب الدكتور شحرور أن عقوبة الجَلْد مقصورة على الفاحشة العَلَنيّة فقط، ففي التفصيل يؤكد الدكتور شحرور ما يلي:
“إن ارتكاب الفاحشة بين ذكر وأنثي لا يسمي زنا إلا إذا توفّر الشهداء الأربعة:
علاقة جماع غير شرعية بين رجل وامرأة = فاحشة
علاقة جماع غير شرعية بين رجل وامرأة + أربعة شهداء = زنا
إذن الزنا = فاحشة + أربعة شهداء ، وهنا فقط يمكن إقامة حدّ الجلد.
انتقلت هنا الفاحشة من بند الذنوب مع الله عندما لم تكن علنيّة إلى بند السيّئات مع الناس بعلنيتها، فاستحقت عقوبة المجتمع بالجَلْد لأنها أساءت إليه.
فأما الفاحشة، فتجبّها التوبة النَصوح مصداقاً لقوله: ”والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم..” آل عمران 135 ، ثم أن اشتقاق اسم الفاعل من الفعل، لا يكون إلا إذا كان هناك تكرار، أو صارت مهنة؛ فحين تحدّث عن عقوبة السرقة، لم يقل: ومن يسرق فاقطعوا يده، بل قال السّارق والسّارقة؛
إلا في القتل، فجريمة واحدة كافية لأن تعرّض مرتكبها لحكم الإعدام، يقول الحق:
”ومن يقتل مؤمناً متعمّداً فجزاؤه جهنّم ..” النساء93
ولكن في آية النور لم يشتقّ اسم الفاعل من (نكح) وإنما من (زن) ما يعني أن الشهوة زنّت على الزاني حتى أنه تجاوز الخوف من الله والخوف من المجتمع. ففي تجاوز الخوف من الله ارتكب الفاحشة، وفي تجاوز الخوف من المجتمع قام بها عَلَناً، ولهذا يكون:
الزنا = الفاحشة العَلَنيّة
وهنا نلاحظ دقة التنزيل الحكيم، حين يحدّثنا عن يوسُف، بأنه صَرَف عنه الفحشاء، ولم يَقُل صرف عنه الزنا، لأنه كان مع امرأة العزيز وحدهما، ولا يوجد شهداء.
وقد يقول قائل: إن هناك ملايين من حالات الفاحشة، تحدث يومياً في العالم، لا تُقام عليها حدود، وأقول: لأنها فاحشة وليست زنا؛ وفي هذه الحالة يطلب الله من مرتكبيها التوبة والاستغفار، كما في قوله تعالي:
”والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ..” آل عمران 135
وفي ذلك أقول: فإذا صدقت نيّة التوبة وأخلص العزم علي عدم العودة، بدّل الله السيّئات حسنات، مصداقاً لقوله تعالي: ”..إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدّل الله سيّئاتهم حسنات..” الفرقان 70
وهنا تتجلّي عين الرحمة، والرّحمانيّة الحقّة، ما يؤكد علي حبّ الله لعباده ليس التائبين فحسب، ولكن “التوّابين”
صيغة مبالغة من تكرار التّوْبات، ولا يكون تكرار التوبة إلا بسبب تكرار الوقوع في الذنوب”.
وعلى صفحته على الفيسبوك علق الدكتور شحرور قبل أيام على حادثة الرجم قائلاً:
“كل ما يذكره الفقه الموروث، عن وجود آية للرجم في التنزيل الحكيم، وتمت إزالتها، هو إساءة بحق كتاب الله”. ويضيف معلقاً على ما يسمى جرائم الشرف: “أرى أن جرائم الشرف التي تحدث في بلادنا، بحيث يقتل الأخ أخته بحجة الزنا، ولا يعاقب، أو يعاقب عقوبة مخففة، هذه الجرائم لا تقل وحشية عما ارتكبته داعش”.
ويؤكد في هذا السياق أن الشرف مسألة نسبية تتعلق بالثقافة ومستوى الوعي والتقدم في مجتمع معين، “فعندنا شرف الرجل في فرج أمه وأخته وابنته، وعند الياباني الشرف في إتقانه لعمله، وقد ينتحر إذا فشل فيه، أما نحن فقد لحقت الهزائم بجيوشنا، ولم نسمع أن ضابطاً واحداً قد انتحر”.
***
لكن كيف ينظر المثقفون العلمانيون لمثل هذه المحاولات والاجتهادات، وهل يعتبرون الإصلاح الديني ضرورة أو مقدمة للإصلاح السياسي؟ ألم تثبت الأحداث ومآلات الثورات أن الحرية ليست قاب قوسين من اسقاط الأنظمة؟
في هذا الاستطلاع المختصر حاولت أن أجمع آراء العديد من الكتاب والمثقفين، دون الخوض مع المتدينين والذين يحتاجون إلى باب آخر.
يقول أحد الكتاب الشباب والذي فضل عدم ذكر اسمه: “الاصلاح الديني ممر اجباري، العلمانية والقوانين المدنية هي الابن الشرعي للإصلاح الديني، وأي كلام آخر هو هروب إلى الأمام”.
الشاعر والصحفي الفلسطيني السوري رامي العاشق ورغم اقراره بأهمية الاجتهاد والذي يعتبر ركناً أساسياً في التشريع اﻹسلامي، إلا أنه يعتقد “أنه بعد أربعة عشر قرنا من الزمان، ما خرج من اجتهادات يكفي” ويتعجب “كيف لا ينتهي تفسير النص بعد أكثر من ألف عام”!!
ويضيف: “شخصيا أحترم كل هؤلاء المجددين المطالبين بثورة دينية، وأدافع عنهم، ليس ﻷنني مقتنع بعدالة نصهم وأحقيته وقدرته على الحكم، بل ﻷنني أرى رؤيتهم اﻹنسانية التي تتقاطع معي، ولو أني أرى أن محاولاتهم التجديدية في الدين ليست أكثر من جرعات مخدر لا يشفي من المرض. فلم ينجح المسيحيون المجددون سابقا إلا عندما ظهرت ثورة العلمانية على سلطة الكنيسة”.
الكاتب الشاب علي فاروق من قدسيا في ريف دمشق يرى أن الحدود في الإسلام قضايا ثابتة، وعلى الأغلب لا يمكن تجاوزها، ولا تغييرها، ولا إصلاحها، كما أنه يصعب إخضاع الإسلام لعملية إصلاح شبيهة بالحركة الإصلاحية المسيحية الأوروبية لأسباب كثيرة، ومتعددة. وفي المحصلة يعتبر أن تجاوز الحدود أو القفز فوقها لا يمكن ان يكون إلا سياسياً، وذلك “عن طريق فصل الدين عن الدولة، واعتماد دولة مدنية ديمقراطية حديثة، تحفظ حقوق الناس، وتراعي حرياتهم بما فيها حرية الإيمان، والاعتقاد”.
أما الباحث جاد الكريم الجباعي فهو ينتقد العلمانيين الذين يخوضون في هذا الموضوع، “خاصة عندما يواجهون بعض النصوص المقدسة ببعضها الآخر، كالبرهنة على أن الإسلام أنصف المرأة، لأن هذه الطريقة تؤدي إلى إنقاذ التقليد”، ويضيف: “لا أرى أن الإصلاح الديني من مهمات العلمانيين، بل على العكس على العلمانيين أن يحاصروا اللاهوتيين فيجبروهم على الإصلاح”، مؤكداً أن نقد الدين لم يبدأ في بلادنا بعد، ولم ينته عند غيرنا، بل ثمة عودة إلى التعصب الديني في معظم دول العالم ومنها دول متقدمة، ليخلص إلى أن “نقد الدين ونقد الفكر الديني ونقد نقد الفكر الديني يجب أن يُفتح من قبل علمانيين كنصر حامد أبو زيد الذين قدموا للاهوتيين خدمات جليلة. وأن تناقش قضية الرجم والجلد والعقوبات من موقع الحداثة وبدلالة حقوق الإنسان وعلى أرضية القوانين الوضعية، مع إبراز الطابع البدائي للأحكام الدينية والتشكيك في صحة النصوص، ونزع القدسية عنها، بما هي نصوص تاريخية لم تعد تربطنا بها أي علاقة”.
إلا أنه يستدرك مؤكداً أنه يقدر تماماً اللاهوتيين الذين يخوضون معركتهم من الداخل مثل الدكتور شحرور والشيخ جودت سعيد، ويقول: “هم من أصدقائي الأعزاء أحترم آراءهم وأعتقد أنهم يؤسسون لمشروع إصلاح ديني على المدى البعيد، نعم يجب الإشادة بجهودهم، لكن من دون تبني وجهات نظرهم”.
ويختم قائلاً: “المسألة في نظري هي إعادة التفكير في العلمانية على أنها شرط انعتاق الأفراد من ربقة التقليد وشرط تشكل منظمات المجتمع المدني، على أن نفرق تفريقاً حاسماً بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي، ونترك الدين مستقلاً في رحاب المجتمع المدني ينمو ويتطور وفق قوانينه الخاصة. المهم عندنا اليوم تأسيس فكرة المواطنة القائمة على الحرية والمساواة والعدالة”.
الكاتب ماهر مسعود يقر بأهمية الإجتهاد على أساس العقل: “عندما يتعارض النص والعقل، يُؤول النص بما يتفق مع العقل، هذا كان جواب المعتزلة وابن رشد أيضاً.. فطالما أن العقل هو أهم هبة إلهية، وإليه تعود مسألة التحسين فيجب أن نؤول النص تبعا للعقل والعصر”
وهو يثمن جهود المجددين ويعتبر أنهم يمثلون الجانب المعتدل للإسلام وأنهم أقلية فكرياً وليس هناك أرضية اجتماعية سياسية لدعمهم بمعنى ما، ولا توجد مؤسسات مدنية ودينية تدعمهم وتسهل نشر أفكارهم المتنورة والمتسامحة.
إلا أنه أيضاً يعود لمسألة العلمانية: “لا بد من فصل الدين عن السيادة والسلطة، أي عن الحكم العام، ومن ثمة فصله عن السياسة، عندما نحدد السياسة ضمن إطار الدولة على أنها علاقات القوة والسيطرة خارج الأخلاق، للوصول إلى السلطة. وذلك لا يمنع رجل دين أن يدخل المعترك السياسي إن أراد ذلك، ولكن ليس بصفته الدينية، بل بصفته مواطن خاضع لقوانين الدولة ودستورها الوضعي”.
ويضيف: “”ْإن ابقاء الدين ضمن السيادة والسلطة يسيء للدين، لقدسية الدين، ويجعله كحزب سياسي أرضي يخطئ اكثر مما يصيب، ويمحي أهم ما في فيه وهو قابلية الدين لكل البشر، أي يصبح الدين هو لبشر مخصوصين و”فرق ناجية” تسعى سياسيا الى السلطة وليس الى عبادة الله”.
يبدو أخيرا أن آراء المجتهدين والمجددين المتدينين قد تلقى القبول والتشجيع من العلمانيين لكن بالطبع من دون تبنيها، ومن المرجح أنها تقابل بالرفض والنفور من المتطرفين، لتبقى مساحة المتنور المعتدل ضيئلة للغاية، ولا تبدو عندها غريبة صرخة الشيخ جودت سعيد من على صفحته على الفيسبوك:
“نحتاج إلى قدم مربع نقف عليه من الحق، نقول الحق ولا نخاف. بلال كان عنده قدم مربع من الحق، ولسان حاله يقول: أشهد أن ما يدعو إليه محمد حق، وما أنتم عليه يا قريش باطل، اقتلوني إن شئتم. وأنا أقول: “الاتحاد الأوروبي حق، والتمزق العربي باطل، الديمقراطية حق، والطغيان باطل… اقتلوني إن شئتم”.
كاتبة صحافية وناشطة سورية من الجولان المحتل، نائب رئيس تحرير طلعنا عالحرية.