مجلة طلعنا عالحرية

يوميات ياسمين (2)

سلام الغوطاني

بطءُ تنفسّي الثقيل, إحساسي بتوقف الزمن, وعجزُ عقلي عن التفكير, أنا المقيّدة بكل ذلك، أدركت غرقي في أوراق ياسمين لا قراءتي لها؛ فالعبارات التي كُتبت على عجل بمدها وجزرها, أمواجٌ مرتفعة, وروحي، على عجزي وضعفي وقلة حيلتي، لا ترفرف فوق سطح الماء…كل هذا الألم السوريّ ليس إلا نفياً لنا.

“ياسمين” أنتِ ضياع روحي, واستردادها من جديد. ليس لأوراقك أي ترتيب زمني وكأنها ومضات فارة من الزمان والمكان. أحاول جاهدة ترتيبها, وأتردد في سؤالك عنها… وهل تُسأل الذاكرة في لحظاتِ انفصالها عن موتها؟! وهل يكون للزمن معنى إذا اجتمعت كل الأحداث وتلاقت في نقطة شقاء؟! تلك نقطة قد حوت الأمة بكل تاريخها, نتجمّد جميعاً عندها، وليس هناك ما بعدها سوى تعريفاً جديداً نعيشه للوطن.

تستوقفني إحدى الأوراق بما تحمله من وجع: “اتصلوا فيي اليوم من روضة ابنتنا “ياراا”، ما تفكر يا “محمد” إنها روضة من يلي كنا نفكر نحط “يارا” فيها؛ فهي روضة تابعة للاتحاد النسائي, وعدد الأطفال بالصف لا يذكرني  إلاّ بمراكز الإيواء التي حٌشرنا فيها. لمّا وصلت, حكتني المديرة وهيي متأثرة, وخايفي عليي -هيك قالت- وطلبت مني بصفتي وصيّة على “يارا” منشان ما عاد تحكي عن يلي صار معنا”. أخبرتني “ياسمين” بتلك الحادثة قالت لي: “والله والله أول شي كثير انبسطت أنو “ليّان” عبتحكي لأنو بدي ياها تحكي, مش منشان الناس تعرف شو صار, آخر همي يعرفوا, بس لأنو سكوتها مخوّفني”.

لم يكن ما لمحته “يارا” بجانب حاوية القمامة سوى بقايا فتات من الخبز اليابس, ضاقت مساحة الرؤيا، واعترى المشهد المرئي ضبابية، يتخللها بمنتصف المشهد بالضبط وضوحاً يستحضر كل الالوان لكسرات خبز يابس.

وبيديها الصغيرتين المرتجفتين حملت “يارا” بقايا الخبز هذه, ودخلت بها إلى معلمة الصّف, وبنبرة فيها من البراءة تغريد الطيور صباحاً, نبرةٌ واثقةٌ غير متردّدة لكنها هامسة: “حرام هالخبز ينكب يا آنسة, هذا كان بابا يدوّر عليه دوار, وينظفلنا يا وناكلو”.

كلماتٌ كتبتها يدٌ مرتعشة تعلوها رسومات غير واضحة, على الأغلب أنها خربشات لـِ”يارا”: “بعد خروجنا الأول, قبل اعتقال زوجي “محمد” بشهرٍ ونصف, هو خروج وعودة, اختبأنا حوالي ثلاثين يوماً في بنايةٍ مهجورةٍ على أطراف البلدة, “محمد” مطلوب للأمن, وقد خرجنا معه حتى لا نصبح رهائن للمقايضة. في مخبأنا لم نعد مهددين إلا من جوعٍ، نسيت الآن كل وجعه، لأنك كنت ما تزال معنا يا “محمد”… لكنها “يارا” يا “محمد”, ذاكرة صامتة لا تنطفئ, شرح الحكاية وملخصها. أمام جوعها تلبسك لأول مرة هذا الهاجس -أن تجوع- صار وسواسا تملكك وتملكني… على أطراف البلدة تحولنا الى أشباه أشباح تبحث عن الطعام، يارا هي الوحيدة العاجزة بيننا إلا من أيد أتوق لتقبيلها كانت تنظف لها بقايا الخبز. يتبع في العدد القادم…

Exit mobile version