Site icon مجلة طلعنا عالحرية

يزرعون الرياح.. يحصدون العاصفة

تقرير حول مشروع توربينات الرياح في الجولان المحتل

قد يبدو مشهد المراوح المنتشرة في مروج أوروبا الخضراء خلاباً ورومانسيا إذا ما شاهدناه على شاشات التلفاز أو من نافذة سيارة عابرة، يبدو مشهداً لطيفاً وصديقاً للبيئة، ونحن نراه من منظور جانبي محايد، لكن ما أن تتأهب هذه الشفرات الحادة لأن تغرس في رؤوسنا حتى يختلف المشهد.
“الشركة”
في عام 2013 أعلنت شركة إنرجيكس المحدودة نيتها إقامة مشروع توربينات الرياح في هضبة الجولان المحتلة، بدعم مباشر من الحكومة الإسرائيلية، فباشرت برسم خرائط المشروع وتحديد الأراضي المطلوبة، وبدأت العمل بمساعدة وسطاء محليين على إقناع أصحاب هذه الأراضي بجدوى المشروع، عبر تقديم معلومات مضلّلة، مستغلة الوضع الاقتصادي المتراجع للزراعة بشكل عام. كما اجتمعت الشركة مع هيئة دينية متنفذة، وقدمت الدعم المالي لبعض طلاب الجامعات، ودعمت فريق كرة قدم محلي، وذلك بهدف خلق أجواء مناصرة للمشروع، وتقليل هامش الاعتراضات إلى الحد الأدنى.
“المشروع”
المشروع الذي قد ينتقل إلى مرحلة التنفيذ قريباً طرأ عليه خلال هذه السنوات العديد من التغيرات صعوداً ونزولاً، فقد بدأ بـ 52 مروحة، ثم ألغي قسم منها بسبب اعتراضات من هيئات إسرائيلية مختلفة ليصل العدد إلى 31، ثم تجميد ستة أخريات لحين موافقة “سلطة أراضي إسرائيل” بسبب نزاع على الملكية بين هذه السلطة وبعض المزارعين. ومؤخراً توافرت معلومات حول محاولة الشركة إضافة مشروع جديد بالقرب من قرية بقعاثا لم يعرف عدد مراوحه بدقة حتى الآن. لكن الثابت أن هذا المشروع الخطير يتم تنفيذه على ملكيات السكان السوريين الأصليين، وهي تشمل القرى الأربع: مجدل شمس، مسعدة، بقعاثا، وعين قنيا.
وتطمح الشركة من خلال هذا المشروع إلى توليد ما يقارب 150 ميغاواط سنوياً، وسيحقق أرباحاً للشركة بين 30 – 45 مليون دولار سنوياً.
الوحوش البيضاء
المراوح التي لقبت بالوحوش البيضاء تزن كل مروحة منها 330 طناً، بارتفاع 180 متراً؛ ما يقارب ارتفاع بناية من 65 طابقاً، تحتاج لتثبيتها إلى قاعدة إسمنتية ضخمة بمساحة 600 متراً مربعاً، وتحوي 1100 طناً من الاسمنت، وتدور شفراتها بنصف قطر يغطي 1000 متر بسرعة 290 كيلو متر بالساعة.
آلاف المتضررين الجولانيين
المشروع الذي يبدو بظاهره صديقاً للبيئة يتجاهل وبشكل مقصود الأضرار التي سيلحقها بالمجتمع الجولاني، فهو يهدد السلم الأهلي بين السكان، حيث أن قسماً قليلاً جداً لا يتجاوز العشرات هم المستفيدون من إقامة المشروع، مقابل آلاف المتضررين. كذلك سوف يحاصر بشكل مباشر التوسع العمراني للقرى، والذي يعاني أصلاً من الاختناق، وعلى الأخصّ قرية مجدل شمس، التي لا تبعد أقرب مروحة عنها أكثر من كيلومتر واحد من الجهة الجنوبية، فيما القرية محاصرة من الشرق بالشريط الشائك لخط وقف إطلاق النار، ومن الشمال بأعالي سفوح جبل الشيخ الذي تستولي عليه سلطة حماية الطبيعة الإسرائيلية، ومن الغرب مستوطنة نيفي أتيب التي استولت على أرض قرية جباثا المهجرة وقسماً من أراضي مجدل شمس.
ويبقى الضرر الأكبر لإقامة هذه التوربينات العملاقة هو تأثيرها السلبي على الزراعة، والتي تعتبر المصدر الرئيسي للدخل، حيث سيتم اقتلاع آلاف الأشجار، وتصخير آلاف الدونمات من الأراضي الزراعية، وتغيير البنية التحتية وتوسيع الطرقات واستحداث أخرى لتتلاءم مع المعدات الضخمة اللازمة لنقل وتثبيت هذه المراوح. كل هذه الإجراءات ستكون على حساب الأشجار والأراضي المزروعة، وعلى حساب تشويه هوية المزارع الجولاني التي استمدها من خلال تمسكه بعلاقة تاريخية ومقدسة مع الأرض.
من جانب آخر، فإن هذه المساحات الزراعية الخلابة المزروعة بالكرز والتفاح، والقريبة من ثلوج جبل الشيخ قد تحولت في الآونة الأخيرة إلى وجهة سياحية لمئات آلاف السياح الذين يزورون المنطقة سنوياً، حيث أصبحت السياحة جزءاً أساسياً من مصادر الدخل والمعيشة لكثير من الجولانيين.
وفي واقع الأمر فإن هذه المروج الخضراء هي الرئة الوحيدة التي يتنفس بها الجولانيون، يعتاشون منها ويقضون فيها أوقاتهم وحياتهم اليومية، وإن تخريب هذه الأراضي سيكون لصالح تحويلها إلى منطقة صناعية، غير صالحة للزراعة ولا للسياحة، تابعة لشركة الرياح، ومن ورائها دولة الاحتلال، لتجني الشركة أرباحاً ضخمة، مقابل مبالغ بخسة لمنتفعين قلائل من سكان الجولان الذين تورطوا بعقود طويلة الأجل من الصعب التنبؤ بنهاية لها.

أضرار مباشرة على الصحة العامة والحياة البرية
لا تقتصر أضرار المراوح على مصادرة الأرض وتدمير الزراعة والسياحة وحصار التجمعات السكنية، فمن جانب آخر أثبتت أبحاث علمية عديدة تأثير المراوح على الصحة والحياة البرية، وإلى جانب الضجيج المباشر والضوضاء المستمرة على مدار الليل والنهار هناك التعرض للموجات فوق الصوتية والتي قد تسبب صداع ودوخة وغثيان، وممكن أن تسبب اضطرابات سمعية، ومن الممكن أن تضرّ بالأشخاص المعرضين لنوبات الصرع من خلال الوميض والظلال المتواترة الناتجة عن مرور ضوء الشمس بين شفرات المروحة المتحركة. كما قد تعرض الحياة البرية للخطر بالقضاء على الكثير من أنواع الطيور الموجودة في منطقة الجولان، فشفرات المراوح تشكل حقلاً جاذباً لأسراب الطيور التي من المتوقع أن تتساقط ميتة على الأرض بأعداد كبيرة، لتصبح رائحة الجيف علامة مميزة للمكان. كما سوف تجتذب أصنافاً من الحيوانات التي سوف تعتاش على هذه الجيف، لتصبح المنطقة أكثر فأكثر غير قابلة للعيش ولا للزرع.

حملات مناهضة المشروع
جاء وعي السكان لمخاطر المشروع متأخراً بعض الشيء، حيث كان يُنظر إليه في البداية بإيجابية كمشروع حيوي صديق للبيئة ومفيد للمنطقة. وقبل ما يقارب السنتين أو أكثر قليلاً باشرت مجموعة من الناشطين والمحامين حملات توعية تتضمن إلقاء محاضرات جماهيرية ومنشورات ومقالات لمختصين عبر مواقع التواصل، تشرح مخاطر هذه التوربينات على الصحة العامة والزراعة والسياحة وما إلى ذلك. ثم تطور الأمر إلى توقيع عرائض شعبية من أصحاب الأراضي المجاورة المتضررين مباشرة من المشروع إلى السكان عموماً، وشملت آلاف الأسماء الذين عبروا بوضوح عن مناهضتهم لهذا المشروع. تلا ذلك تقديم اعتراضات قانونية إلى مجلس التخطيط المركزي في القدس، والتي تحولت في جلسات عدة إلى تظاهرات احتجاج شارك فيها العشرات من كافة أطياف المجتمع، وقدموا شروحات تفصيلية لهذا المجلس حول مخاطر المشروع من كافة الجوانب، إلا أن الأمر انتهى -كما كان متوقعاً- إلى موافقة المجلس على المشروع، ضارباً بعرض الحائط حياة السكان الأصليين واعتراضاتهم المحقة. ولم يمض وقت طويل حتى صادقت الحكومة الإسرائيلية على المشروع بتاريخ 30/1/2020.
غطاء أمريكي “ترمبي” في خدمة سياسات الاستيلاء والتهجير
الحكومة الإسرائيلية تدعم هذا المشروع بشكل كامل، فقد أدرجوه كـ “مشروع وطني للبنية التحتية” مما سمح باستعجال المصادقة عليه، وهو يرسخ السيادة الإسرائيلية على الجولان المحتل، تزامناً مع اعتراف أميركي صريح بهذه السيادة، وتزامناً أيضاً مع إطلاق حملة استيطانية جديدة دشنتها مدينة “رامات ترامب” التي يجري العمل فيها على قدم وساق.
ويرى الكثيرون أن حشر هذا المشروع في هذه المساحات الزراعية الضئيلة المتبقية للسكان الأصليين وبين قراهم المأهولة يأتي في سياق سياسات التهجير الممنهج التي قامت عليها الدولة العبرية منذ نشوئها. ولقد إطلع الجولانيون من خلال أبحاث ومنشورات وبرامج تلفزيونية موثقة على العديد من التجارب في الدول الغربية لقرى وتجمعات سكنية هجرها سكانها بعد إقامة مشاريع توربينات الرياح بجوارها.
الجمعة الحمراء
خلال السنتين الأخيرتين عمل المجتمع الجولاني على حثّ أصحاب العقود على التراجع عن عقودهم المبرمة مع الشركة، باللين أحياناً وبالضغط الاجتماعي المنظم أحياناً أخرى، ولاحقاً نظم ناشطون حملة إعلامية واسعة تحت عنوان “كي لا تحاسبنا الأجيال القادمة” والتي توّجت بيوم احتجاجي كبير دُعي لاحقاً بيوم “الجمعة الحمراء” وكان نقلة نوعية في حجم الحراك وشكله، وعبّر عن إجماع المجتمع بكافة أطيافه على معارضة هذا المشروع حتى الرمق الأخير.
وبمتابعة من اللجان القديمة وانضمام المزيد من المهتمين تم الاتفاق على الاستمرار بالمسار القانوني من خلال توكيل محامين مختصين، واستمرار الحراك الشعبي الذي اتخذ قراراً لا رجعة فيه برفض إقامة هذا المشروع بكافة الطرق.

ويستمر نضال الجولانيين..
وفي انتظار ما قد يسفر عنه المسار القضائي، يبقى المجتمع الجولاني في حالة من الترقب والقلق لأي تطورات جديدة أو أعمال على الأرض قد تقوم بها الشركة. وقد احتدم الموضوع مؤخراً حين دخلت آليات الشركة عنوة إلى أراضي المزارعين، مدعومة بقوات ضخمة من الشرطة الإسرائيلية، وحصلت اشتباكات عنيفة استعملت فيها شرطة الاحتلال قنابل الغاز والرصاص المطاطي، وأسفرت عن عشرات الإصابات والاعتقالات، إلا أن الجولانيين اعتصموا أمام محطة الشرطة الإسرائيلية في قرية مسعدة، ولم يغادروا المكان حتى أفرجت السلطات عن كافة المعتقلين.
يعتقد كثيرون أن هذا اليوم كان بمثابة جسّ نبض لموقف الجولانيين، واختبار لمدى إصرارهم على مناهضة المشروع، وبدورهم أهالي الجولان يؤكدون أنهم لن يتنازلوا عن أراضيهم ومصادر عيشهم وكرامتهم مهما كلف الأمر. ومثل كل التحديات السابقة التي خاضها الجولان وحيداً بلا دولة ولا سند، يتحدى الجولانيون الاحتلال اليوم ولسان حالهم يقول، كما في الشعار الذي تناقلوه على صفحاتهم، أن من يزرع الرياح لن يحصد إلا العاصفة.

*اعتمد التقرير في المعلومات التقنية والتفصيلية على تقرير المرصد العربي لحقوق الإنسان في الجولان، وعدد من المقالات البحثية التي نشرها ناشطون على صفحات التواصل الاجتماعي المحلية.

Exit mobile version