مجلة طلعنا عالحرية

في خطورة قرار النصرة وأهميته

منطقياً وعقلياً وأخلاقياً، ليس هناك أي جديد في تحوّل جبهة النصرة و”فكّ ارتباطها بالقاعدة”، فمن يصدِّق أن المنهج الشرعي والعقائدي لجبهة النصرة قد تغير بتغيير الاسم، لا يختلف بتاتاً عمّن يصدُّق أن الأسد قد يتحول ليصبح ديمقراطياً، أو من صدَّق وقال سابقاً إنه “رئيس شرعي منتخب ديمقراطياً”.

لكن بالمعنى السياسي والبراغماتي، فإن التغيير الذي قامت به النصرة ليس تغييراً شكلياً، والقرار الذي اتخذته هو قرار هام على قدر ما هو خطير، وهو قرار يفتح الأبواب على المجهول وغير المتوقع، ويزيد من خلط الأوراق والتعقيدات الحاصلة على المستويين الداخلي والخارجي.

ربما يعلم الجميع، أن جبهة النصرة لم تقم بأي عمل إرهابي أو مقاتل خارج سوريا، وأن الغالبية العظمى من مقاتليها سوريون، وأن الوجهة الأساسية لعمليات النصرة الحربية كانت ضد النظام السوري، وضدّ فصائل الجيش الحر أيضاً، وأن المناطق التي يقصفها العدوان الروسي الأسدي هي مناطق سورية ليست خاضعة بالكامل لسيطرة النصرة، وأن الغالبية العظمى من الضحايا هم مدنيون، وجلّ التدمير الحاصل هو للمنشآت المدنية والمشافي والمدارس، كما أن جبهة النصرة تقيم التحالفات الصلبة مع غيرها من الفصائل الإسلامية المعتدلة وغير المصنفة إرهابياً ضمن “جيش الفتح” والجبهة الشمالية والجنوبية..

وكل ما سبق يشير إلى أن النصرة لم تشكّل ولم تكن منذ بدايتها خطراً على الخارج، بل كانت وما زالت، خطراً على الداخل السوري وحده، وربما كانت (قبل ظهور داعش عام 2013) من أكثر أعداء النظام المفيدين له سياسياً وعسكرياً، ولكن في هذا كله ما يحيل إلى أن السبب الموجب دولياً لاعتبار النصرة منظمة إرهابية؛ أي ارتباطها بالقاعدة، قد سقط اليوم، ويحيل أيضاً إلى أن مشكلة جبهة النصرة هي مشكلة سورية داخلية يقع على عاتق السوريين وحدهم حلهّا، وهي مشكلة “باقية وتتمدد” طالما أن المُسبِّب الأول للمشاكل المتعددة، والمُخرب الأول والأكبر لسورية مستمرٌ على رأس السلطة، ومستقطب لكل أنواع الغزو والاحتلال والإرهاب الممكنة.

من السذاجة السياسية مطالبة النصرة بتغيير عقيدتها، وهو ما يعلم الجميع أنها لن تتغير بجرّة قلم أو بكشف الجولاني عن وجهه وإزالة حجابه، لكن من السذاجة والدناءة انتظار تصفيتها بالقوة عبر العدوان الروسي الأسدي، وهو ما يتسابق عليه الكثيرون من أهل المعارضة قبل الموالاة، وهو أيضاً ما يعلم الجميع أنه لن يحصل قبل تحويل مدن بأهلها مثل حلب وإدلب إلى “مزارع بطاطا” على ما يتغنّى به موالو الأسد المهللون لحصار حلب اليوم.

رسالة الجولاني موجهة للداخل قبل الخارج، فهو يعلم تمام العلم، أن الاتفاق الروسي الأمريكي قد يدفع الفصائل الأخرى للابتعاد عن النصرة، وربما يدفع مقاتليه للتخلي عنه والانسحاب نحو الفصائل “المعتدلة” بالمعيار الأمريكي، وأن الضغط الشعبي سيتزايد ضدّه مع تزايد القصف، المُستهّدِف للمدنيين قبل العسكر، في مناطق انتشار الجبهة، وأن الدول الداعمة لن تتمكن من فتح فمها أمام الشرعية الدولية المستحصلة لقصف الإرهاب القاعدي والداعشي، ولذلك فإن قرار النصرة يضع الداخل والخارج أمام استحقاقات جديدة، فمع التخلي عن القاعدة والبعد العالمي للنصرة (حتى ولو كان شكلياً)، يورِّط الجولاني جميع الفصائل الأخرى والأهالي معه في مواجهة العدوان القائم والاتفاق الأمريكي الروسي الجديد، ويسحب الذرائع؛ الشكلية أيضاً، التي يقدمها التحالف الدولي لقصف المناطق الواقعة تحت سيطرة المعارضة.

بالمعنى السياسي، لا يجب على المعارضة الوقوف في الصف الأمريكي الروسي الأسدي ذاته، وهو الموقف الذي يشكك ولا يرحب بخطوة النصرة باعتبارها خطوة شكليّة، والذي يعتبر في العمق أن جميع الفصائل الإسلامية هي فصائل إرهابية لابد من استئصالها بالقوة، وهذا بالضبط ما يقوله الأسد وحلفاؤه للغرب وللسوريين أيضاً.

قليل من التحلَّي بالمسؤولية الأخلاقية والسياسية تجاه من تبقى على قيد الحياة في سوريا لا يضر، فإن كانت النصرة مشكلة كبيرة للثورة، وهي كذلك، فهذا لا يعني الاستنجاد بجميع أعداء الثورة لاستئصالها بمن فيها ومن هي بينهم ومن يعانون منها أكثر من غيرهم. وأما العيش في بحر المثاليات الثورية للمراقبين “الثوريين” في الخارج والداخل، وكأن الثورة في بداياتها السلمية، أو كأنها ثورة ضد نظام ملائكي مسالم وشرعي، فهذا ما نتركه لمن يريدون إخراج الواقع من رأسهم، وعدم إخراج رأسهم من الواقع، وما يقع.

Exit mobile version