Site icon مجلة طلعنا عالحرية

في (الكتابة على جلود البشر..)!

يوسف صادق

كل ما كُتب وما يُكتب حول تجربة المعتقل لا يعادل لحظات الألم لمعتقل/ـة أو مُغيّب/ـة أو مفقود/ـة، أو غصّة وجعٍ وصراخٍ مكتوم لأمٍّ أو زوجة أو طفل /ـة ينتظرون حريته/ها. هذا أولاً وأخيراً.
ولعلّ غزارة ما كُتب عن المعتقلين والمغيبين من دراسات ووثائق وروايات أدبية، تؤكّد حجم الدمار النفسي والمجتمعي الحاصل على مدار عقود. ومن المجحف تناولها كوثائق إدانة لسلطة استبدادية وفقط، رغم أهميّها القانونية لاستعادة الحقوق، أو اختزال المعتقلين والمغيبين قسرياً بصفة البطل الناجي، على غرار شخوص الأبطال في المخيال الشعبي، متناسين كينونتهم وإنسانيتهم، كما هي الحال باختزالهم لأرقام، لدى السلطة الحاكمة والمنظمات الدولية.
تجربة الألم التي خبرها المعتقل /ـة أو المغيب /ـة، تفصح عمّا وصلت إليه العلاقات الاضطهادية في الثقافة والسياسة والنفس الفردية، تفصح عن دلالات المعتقل/ السجن وقد بات وطناً أو أيديولوجية أو حزباً شمولياً أو مؤسسات هدفها ضبط السلوك والولاء والطاعة.
والعنف بكل أشكاله هو وسيلة الإخضاع لدى كل تلك المعاني الرمزية للسجن/ المعتقل، في كل ما كُتب من روايات ووثائق وشهادات من قِبل لجان حقوق الإنسان وعدد كبير من الكتّاب، كمصطفى خليفة وأيمن العتّوم وفرج بيرقدار وهبة الدباغ وسمر يزبك وروزا ياسين حسن وإبراهيم صموئيل.. وغيرهم الكثير، نجد تماثلاً في توثيق أشكال العنف؛ فالعنف ليس حالات مرضية فردية بقدر ما هو نمط ممنهج لدى السلطة اللاشرعية لفرض نمطها الاستبدادي في بنى المجتمع وفي سلوك وثقافة المقهورين. حينها يساوي الخوف بين المقهورين؛ فيتساوون بعدم الجدوى، وبالانسحاق وتغييب أناياتهم، يجمعهم ويفرقهم بين متماهٍ مع نمط وأساليب المستبِد وبين منكفئٍ على ذاته. عندها تسود ثقافة الاستبداد ويستقر حكم الطغيان.
هذا ما يطرح علينا بل يحفزنا لدراسة ما كتب وأفصح عنه المعتقلون من تجربة الألم، لنعي كيف تشكّلت تلك العلاقات الاضطهادية، وكيف أصبح السجن/ المعتقل أكبر دلالةً، وكيف تشكّلت ثقافة الاستبداد كنمط يسحق الإنسان ويهدره.
إنّها إذاً ثنائية السجين/ السجّان تكثّف تلك العلاقات الاضطهادية في مجتمع قائم على إرثٍ طويل من الاستبداد إيديولوجيّاً وسياسياً، ومتحاجزاً إثنيّاً وطائفيّاً، يُعبّر عنه بذهنية شفاهية غيبيةٍ، يصبح الاستلاب هو القاسم المشترك، والخوف والقلق على الوجود مساوياً بين السجين والسجّان، حينما يصبح السجين سجّاناً لإنسانيته ولذاته عبر المرور بتحوّلاتٍ ليست خياراً له، بل هي شروطٌ تفرضها ثقافة الاستبداد. وقد بات سلطة لمن يريد أن يكون من الفرقة الناجية. منسلخاً عن انتمائه الأرقى إنسانياً وسياسياً، متماهياً بنمط حياة المستبد وسلوكه.
المقهورون المتساوون في العدم، تتأصّل لديهم على المستوى النفسي والسلوكي تلك الثقافة التي تحاكي شروط النجاة والخلاص، يتقاسمون وسائل العنف والإكراه والإخضاع، لأنه لا فرق بين أيديولوجية دينية غيبية هدفها الإخضاع، وبين سلطة ديكتاتورية، وبين نمط علاقات أبوية بطريركية غرضها الولاء والسطوة. أولئك يتساوون بالمبدأ ويختلفون في الوسائل، رغم اتفاقهم بالعنف كإخضاعٍ وإكراهٍ وتربية.
كل ما كُتب عن المعتقل يوثّق هذا الاتفاق غير المعلن على العنف اتجاه كل مَن يخرج عن القطيع المتماثل، أو التأديب وتكسير الرؤوس حتّى يتساوى الطرف الآخر بالعدم.
ألا نجد تكسير الرؤوس لدى المقهور منذ أيام الطلائع ثم الشبيبة ثم الخدمة الإلزامية؟ ألا نجد سياسة الاحتواء والتدجين وفرض التربية التي تمجّد القائد منذ أيام الروضة؟ وهذا هو أبشع أنواع العنف؛ لما فيه من تعدٍّ على الوجدان وخيارات الإنسان وكينونته. أليس هذا “حيونةً للإنسان” كما أسماها ممدوح عدوان؟!
بينما يدرك المستبد الطاغية أنّ كلّ التغوّل بالعنف “لن يمتلك من خلاله تفكير السجين وأحلامه” كما قال أيمن العتوم. لربما هو هروب نحو الأمام، وانتقام وتشفٍّ من إرادة المعتقل/ـة؛ (فالسجون لا تحمي الأنظمة القمعية، والمذابح لا تثبت سلطتها، والإكراه لا يجلب الاعتقاد).
جلّ ما يفعله المستبد بعد تحويل الإنسان إلى عدوٍّ لنفسه، وتحويل السجن/ المعتقل لوطن أكبر عبر مؤسساته وأذرعه الأخطبوطية. جلّ ما يفعله هو إشاعة نمط حياته وأساليبه، حتى يتماهى معها الإنسان الحالم بالحرية المقهور.
وتسود ثقافة المستبد بإشاعة مفاهيم الشطارة وتدبير الحال والخلاص الفردي، والاستهلاك. حيث تنقلب المفاهيم في ثقافة الاستبداد فتصبح كلمة “سيدي” لرفع مكانة الجلّاد، ومكانة المتحكّم بشؤون الناس، وكلمة “أستاذ” مكاناً لانحطاط الشخص والعلم أمام جبروت السلطة والعنف.
وتصبح القضايا الكبرى محط نفور وكره، حينما تصبح قضية شعب فلسطين مكاناً للاعتقال.
أمّا الإنسان المقهور فمغلوبٌ على أمره بين عقابٍ مُعجّلٍ من قِبل المستبد، وبين عقابٍ مؤجّلٍ من العزيز القدير. وكأنّ الكواكبي ما زال حاضراً إلى وقتنا الراهن في تفسير مظاهر الاستبداد، و”الأسرى” الذين تكلّم عنهم، هم الآن منكفئون على ذواتهم الفردية الأنانية (أنا ومن بعدي الطوفان) أو على ذواتهم الجماعية الإثنية أو الطائفية أو العائلية كقوقعةٍ تحمي هذا المقهور من أيادي المستبد.
ولا ننسى أن الصراع حتى على سلّم الوصول لأحضان المستبد ذاته، عبر التماهي أكثر بعنفه، أو الصراع على المكاسب والمغانم والولاءات في المؤسسات القائمة. والنتيجة هي سحق الإنسان وهدره، يغذيها المستبد ويغذي صراعاتها. لتصبح كلها سجناً كبيراً.
بينما كلّ ذلك يحصل منذ عقود أو أكثر، ما زال الشيء الوحيد الذي لا يُسمع هو صرخة الألم لدى المعتقل/ـة، في تلك الأقبية المظلمة الموحشة.
حسبنا أننا ننقل ذاك الصدى لنكسر حواجز الفضاء وقضبانه، حسبنا أننا ننقل عنهم أنّ المعتقل هو الوطن وأنّ كلّ ما فيه أصبح أقبيةً مظلمة، هذا هو نداء المعتقلين: أنقذوا الوطن من سجن وعنف الطاغية.

Exit mobile version