عزام الخطيب
لذيذة تلك الصدمة التي شعرت بها وأنا أتجول في معرض للكتاب العربي في هذه المدينة، التي أعيش فيها منفاي القسري، والسبب في هذه الصدمة الممتعة المحفزة أعزائي القراء أنني بعد أن أنهيت كتابي الشعري الأول، وفرحت به أيما فرح، ومشيت بسببه مختالاَ بين أصدقائي فخوراً بما أنجزت، لم أستطع أن أتمالك نفسي عند رؤية هذا العنوان “ساعدونا على التخلص من الشعراء” لتاج الدين موسى.
حدثتها مواسياً لها بقولي: “لا تأبهي لهذا القاص الغر المبتدئ، فهذا عمله الأول أيضاً ولايزيد عني بشيء”، فأجابتني بخبث المتحدي الواثق: “لم لا تتصفح آخر الكتاب للتأكد من ذلك؟”!
سبع مجموعات قصصية، أربع مسرحيات، ثلاث جوائز إبداع أدبي، ممثل هاوٍ أيام الطفولة وبدايات الشباب، مقالات، دراسات، ترجمات!..
فما كان مني إلا أن غيرت واحدة من أهم عاداتي الثقافية؛ وهي ألا أشتري كتاباً من جولتي الأولى في أي معرض أو مكتبة أزورها، ولكني كسرت هذه العادة واشتريت الكتاب بسرعة مغادراً المكان لقراءة قصصه من ناحية، ولأتخلص من نظرات المستغربين لرؤية شخص يمشي وحيداً ضاحكاً محوقلاً.
غريبة هي المشاعر التي تنتاب القارئ وهو يمعن النظر في ذلك الفارس الخامس الخفي، الذي يخفي بغموضه السعادة والشقاء، الموت والحياة، إضافة لكل تلك التناقضات التي تعتري أربعة أشخاص كثيري الشرب، والحالمين بمجتمع أفضل.. يتعامل فيه الناس مع بعضهم برقي واتزان..
ولكن هيهات أن يصلوا لما يريدون، إنهم وإن بدؤوا بتوزيع الخمر على الناس خلسة في الليل، عساهم يوصلوهم لتلك الحالة، إلا أن يد السجان كانت أكبر من الجميع، لتخفي في جبروتها الممزوج بحمق غريب تلك القدرة الهائلة على قتل كل جميل، لينتهي المطاف بالحالمين الأربعة إلى تجرع كأس الموت على يد سجانهم، وهي يحاولون إقناعه بأن خامس هذه المجموعة هو ذلك الحلم الخفي الصعب التحقيق.
ولكن قد يتساءل القارئ ما هو دور الشعراء في الموضوع؟ فتكون الإجابة بتسليط القاصّ الضوء على أن الشعراء، وبكثرة عددهم، بعضهم يتقن هذه الصنعة، وكُثر آخرون لا يتقنونها، وبلباسهم الرثّ وقبعاتهم القديمة قد زاد عددهم بشكل كبير، حتى أصبح لكل مواطنٍ شاعرٌ، إلا أن الشعراء وبتصريحهم الشعري لا يشكلون إلا مرآة لمكنونات النفس وثوراتها وتقلباتها. وكثرة عددهم تمثل ما في المجتمع كلِّه من مكنونات وأحلام وتناقضات.
ومن الصعب عزيزي القارئ أن تغلب بكاءك وأنت تقرأ قصة “أشياء لا تستطيع السماء أن تحكيها للبشر”؛ ستكتشف معي بها مرارة الحرب وبشاعة ما يحدث فيها من فظائع يندى لها الجبين. فالممرض دنيء النفس الذي يتاجر بجثث موتاه، والذي من المفترض أن يكون أمينأً عليها؛ يدسّ في جيبه ما تسول له نفسه من حليّ ذهبية ورسائل وعملات، بالاتفاق مع طبيب آخر من الجهة الأخرى من المدينة، التي انقسمت على أساس طائفي بين منطقتين يتبادل كل طبيب فيها مع شريكه من الجهة المقابلة الجثث والرسائل والمسروقات! إلى أن تحصل المفارقة العجيبة بعودة شخصين إلى الحياة بأعجوبة، أحدهما رجل عجوز والأخرى صبية سمراء كتب الله لهما النجاة والعودة للحياة في اللحظات الأخيرة، بينما يوجد في أحشائهما رسائل يعبر فيها زوجان كل من طائفة معينة بعد أن تفرقا كل إلى حيه، وبعد أن فقدا أولادهما وفلذة أكبادهما في القصف.
فالحب يعبر كل الطوائف والحروب المأسي، ويعيد من يئس الأطباء من شفائه إلى الحياة ليشكلا معاً أيقونة للتلاقي وتعبيراً عن الجنون الذي ينتاب البلاد كما يقول الكاتب.
بعد أن تأثرت مع الكاتب حزناً وبكاء على ما وصل إليه حالنا من تعاسة وجنون، كان لا بد للكاتب أن يأخذنا إلى عالم من السرور والضحك حتى القهقهة من تلك المفارقة الغريبة والتناقض العجيب بقصة “من تاريخ الحركة النقدية في بلادنا”، والتي يروي فيها الكاتب قصة شاب يعمل في فرن للخبز صادف وجوده -أي الفرن- في نفس مبنى اتحاد الكتاب، وللصدفة البحتة دخل الشاب عن طريق الخطأ إلى أحدى الأمسيات الأدبية ولم يعرف ما يجري حوله، وتناهي لسمعه كلمة ناقد دون أن يعرف معناها وما تمثله، لكن المضحك في الموضوع أن كل من التقى بهم من شعراء وروائيين وقصاصين قد طلبوا منه أن يكتب لهم مقالات نقدية عن أعمالهم، وبمنتهى الخبث والذكاء استطاع صديقنا عامل الفرن نفسه أن يتجاوز هذه الورطة باتفاق سري مع كل كاتب أو قاصّ بأن يكتب هو -أي الكاتب- المقالة النقدية المناسبة لنتاجه مدعياً قلة الوقت، وبعد أن نال صاحبنا شهرة واسعة كناقد أدبي عبر نشر العشرات من المقالات في كبريات الصحف، لم يستطع السيد فوزي أن يفك طلاسمها طبعاً، وحصل برغم كل ذلك على جائزة تقديرية ومكافأة نقدية كبيرة تقديراً لجهوده الجبارة، وعند سؤال جموع القراء والمهتمين له عن اسم دار النشر التي ينوي إنشاءها بهذا المبلغ الضخم أو عنوان الكتاب النقدي الذي سيحوي أعماله فأجاب صديقنا فوزي: “لا لا أبداً.. لا أنوي أياً من هذه الأفكار، ولكنني أريد أن أؤسس فيها فرناً للخبز”!
وبعد أن تجولت معكم أعزائي القراء على بعض من ثلاث وسبعين قصة بين دفتي هذه المجموعة القصصية، كان من سوء حظي أنني علمت وفي الصفحة الأخيرة منه اعتزام الكاتب اعتزال العمل القصصي بشكل عام، وهو ما أطالبه بالعودة عنه إلا إن كان يخبئ لنا ما هو جديد في فنّ أدبي آخر.
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج