Site icon مجلة طلعنا عالحرية

ديني.. علماني.. خذلان مزدوج !

عندما قمنا بنشر مقال الكاتب شوكت غرز الدين “يا بابا شيلني” في العدد 86 من مجلتنا “طلعنا عالحرية” قبل نحو العامين، ثارت زوبعة مفتعلة إلى حدّ كبير، يبدو أنه قد تم تضخيمها من “أصدقاء” قبل الأعداء! ولم يكن كافياً نشر اعتذارين وسحب المقال من الموقع الإلكتروني للمجلة، فلقد وجدت نفسي مع تطورات الأحداث المتسارعة ومن موقعي المهني أمام موقف أخلاقي دعاني إلى تحمل المسؤولية الكاملة عن هذا “الخطأ” وذلك بدافع حماية كوادر المجلة في الغوطة الشرقية التي كانت خاضعة لسلطة مستبدة “جيش الإسلام”، هذه السلطة التي نصب قادتها أنفسهم “خلفاء الله في الأرض”.

… لم أتخيل يومها للحظة واحدة أن “أصدقاء” كثر إضافة إلى عدد محدود من زملاء العمل سوف يتلقفون هذا الإعلان لـ “إدانتي” فعلياً ولتقديمي كبش فداء والتضحية بي دون رفة جفن.

بدأت الأصوات تتعالى مطالبة بتحميلي المسؤولية الكاملة، وبدأ يردني الكلام الجارح من كل حدب وصوب، من أناس اعتبرتهم حتى ذلك الوقت أخوة وأصدقاء ورفاق درب. ورغم اتفاقي مع زميلي أسامة على ضرورة خوض معركة مشرّفة، وهو الذي كان ميالاً لإعلان استقالة جماعية تشبه الاحتجاج لكامل فريق المجلة، إلا أنني ضعفت وانهرت وأجبرني خوفي على الأصدقاء في الغوطة من جانب، ومرارة الخذلان من جانب آخر على اتخاذ قرار الاستقالة.

 لم تكن مجلة طلعنا عالحرية يوماً بالنسبة لي، ولزميلي أسامة بالتأكيد، مجرد عمل أو وظيفة..! كانت تاريخاً للثورة والحلم، وسنوات من العمل الطوعي الدؤوب، كانت أيضاً تاريخاً من المعاناة والألم.. الوجدان والأمل والأصدقاء الرائعين الذين عملنا معهم، التنسيقيات التي كانت تقود النضال السلمي وتتولى طباعة المجلة وتوزيعها عدداً تلو الآخر، الأصدقاء الذين فقدناهم.. من استشهدوا ومن غيبتهم غياهب السجون وجيوش الإسلام التي تريد أن تحاكمنا اليوم وتكمم أفواهنا، وها هم “الأصدقاء”، بقصد أو بغير قصد، يصطفون خلف هذا الجيش!

مرت أيام ولحظات كاشفة وموجعة مثل كابوس، أترفع عن الخوض في تفاصيلها اليوم، مثلما آثرت الصمت خلال عامين لضرورات السلامة لفريق الداخل، وكم من مرة أجهشت وحيدة بالبكاء وأنا أرى ما تبقى من حلمي وهويتي يهويان على الأرض ركاماً يشبه ركام الوطن. ولم تكن بيانات “الانصياع” التالية التي نشرها “فريق الأزمة” لاحقاً أقل إيلاماً.

كنت بأمس الحاجة آنذاك إلى التعاطف الصادق، كان يمكن لكلمات قليلة من أصدقاء محبين أن تنتشلني من ضعفي ومن خيبتي، اختفى الأصدقاء وغابوا، إنه بخل “المثقفين” المعروف واستكثارهم، ربما كان هذا سمة ملازمة لمجتمعات القهر حيث الكل يتربص بالكل.. لا فرق في ذلك بين متطرفين أو معتدلين.. متدينين أو علمانيين، محافظين أو ليبراليين. في مجتمع القهر وحدهم الطغاة والقتلة هم الناجون من قسوة المجاميع.

 في محنتنا التي اختبرناها، كان غريباً أن يكذّب المتطرفون تصريحي بمسؤوليتي عن نشر المقال، وذلك رغبة منهم في ذبح أسامة! بينما صدقت غالبية شلل العلمانيين ومنظمات “المجتمع المدني” نفس التصريح! وذلك.. كي يغتالوني.

الجانبان أرادا كبش فداء ينحرونه.. الجانبان أرادا الانتقام!

لم يقتصر الظلم الذي عانيته خلال هذه المحنة وبعدها على التمييز الطائفي واعتباري ابنة أقلية كافرة تعبث بالمعتقدات الإسلامية، فعلى الجانب الآخر لم تكن “الأقلية” أقل ظلماً، ولا كان المعارضين “المثقفين” أقل حماقة، فعنجهيتهم “العلمانوية” لا تستوعب ولا تفهم موقفاً يساير المحظورات الدينية حتى لو جاء حقناً للدماء.

لا أريد أن أسهب في استعراض مظلومية خاصة من الصعب نقل تفاصيلها الدقيقة، لكن من المناسب أن نتحدث عن أزمة عامة تعانيها النخب السورية. أزمة كره المثقفين لبعضهم البعض، أزمة الغرق في الذاتوية، وأزمة انكفاء المؤسسات المتسلّقة على أكتاف السوريين عن القيام بواجباتها، أزمة انشغالها المفرط بالمنح والجوائز، أزمة جبنها ووجع خذلانها لكل من يحتاج إلى دعمها.

كنت قد قلت سابقاً في حديث مع أحد المواقع لا أعرف إن كان قد نشر أم لا إن التفاعل مع قضية طلعنا عالحرية لا يبشر بالخير، لا على مستوى الصحافة والصحفيين والناشطين، ولا على مستوى الثقافة والمثقفين، ولا حتى على مستوى ما يسمى “المؤسسات المدنية” ولا تلك المنظمات والهيئات التي تدّعي أنها تعمل من أجل حماية الصحفيين بالذات وصيانة حرية التعبير “المقدسة”.

“التضامن” الذي حصل، والذي تم استثنائي منه، لم يتجاوز عتبة الكلمات، وانفرط عقده بعد عودة “مؤسسات” الغوطة لممارسة “أعمالها”، وانتهى الأمر دون أي مبادرة جدية أو دعوة ملموسة قد تعيد ماء الوجه للضحايا أصحاب القضية.

كان من الأنسب والأكثر احتراماً أن يتم التضامن على مستوى المبدأ والقضية، قضية الحريات وعلى رأسها حرية التعبير، وذلك من دون الاختباء وراء حجج واهية تتعلق بمستوى المقال مثلاً، أو البحث والتنقيب عن المسؤول عن هذا “الخطأ”.. أو تقزيم القضية للتضامن مع شخص أسامة بعينه، والذي يستحق التضامن وأكثر بكل تأكيد.. لكنه يستحق تضامناً يليق به وبمستوى قضيته.

 هي بضع كلمات كان لا بد لي أن أقولها، ربما تعيد للوجه ماءه وترمم في الروح بعض الانكسارات، فالجروح العالقة والغصّات المخنوقة لا يمكن مداواتها إلا بالبوح، ربما سيغضب البعض مما كتبت.. ربما سأكسب أعداء جدداً فوق القدماء.. لا ضير في ذلك فلقد أدمنا نحن السوريين العداء!

رغم السوداوية الإجبارية، أريد أن أحرص في الختام على ألا يفوتني أن أشكر الأصدقاء المعدودين.. الذين شعرت حقاً بتضامنهم وقلقهم، شكراً لوجودكم ولدعمكم، أريد أن أخص بالذكر الأصدقاء والزملاء الفلسطينيين السوريين الشباب الذين كانت مقاربتهم للمشكلة مختلفة تماماً، ربما علينا أن نتعلم منهم فلقد صقلتهم تجربتهم الطويلة مع الظلم والفرقة، كما أريد أن أشكر كل من ساهم وعمل من أجل أن يرى هذا العدد النور بعد صمت دام عامين كاملين.

Exit mobile version