Site icon مجلة طلعنا عالحرية

حكاية قدسيا الأخيرة

علي فاروق

اقتربت الساعة من السادسة صباحاً، بدأ سكان المدينة يسمعون إطلاق الرصاص، كانت الأصوات تتركز في منطقة “الخياطين”. علمنا من أصدقائنا المرابطين هناك، أن الجيش بدأ محاولة لاقتحام “الخياطين”، ما سيعني سقوط المدينة بكاملها، فيما لو تحقق له ذلك..

تصدى (15) مقاتلاً، بأسلحةٍ خفيفةٍ، للجيش المقتحم، وكبدوه أكثر من (50) قتيلاً وجريحاً، وأسروا جندياً.. فبدأت المدفعية، والدبابات قصفاً عنيفاً استمر حتى المساء..

بعد بيومين بدأت محاولة الاقتحام الثانية، هذه المرة كان محورها منطقة “العيون”، في بلدة الهامة الملاصقة لقدسيا..

استشعر السكان الخطر المحدق؛ فالواضح أن هذه المعركة لن تكون كسابقاتها، وقد أيقن الجميع أن النظام عازم على تصفية ثورة المدينة، وأن “الهدنة” التي وافق عليها الثوار، وقبلوها مرغمين لثلاثة أعوامٍ سابقةٍ، استنفدت أهدافها..

مدينة قدسيا وبلدة الهامة كانتا من أولى المناطق التي وقعت اتفاقية “مصالحة وطنية”، كان ذلك ربيع العام 2013، في ذلك الوقت طرح المسؤول عن ملف “المصالحات” العميد “سالم العلي” خيارين: إعادة اقتحام المنطقة عسكرياً، واسترجاعها إلى حضن النظام، ولو مدمرة، أو القبول بتسوية، وإبرام “هدنة” يتعهد فيها الطرفان بعدم القيام بعمل عسكري في المنطقة، وتحتفظ فيها الأطراف بمواقعها العسكرية، ومواقفها السياسية. ورغم معرفة الثوار أن النظام يسعى لغاياتٍ، وأهداف غير معلومةٍ، وأن “الهدنة” لن تكون لصالحهم، إلا أن موازين القوى في المنطقة، باعتبارها محاصرة، وليست لها طرق إمداد، ولا تتصل مع أيٍ من المناطق المحررة، ووقوعها على مقربة من “قصر الشعب”، في موقع استراتيجي، ملاصقٍ لمساكن “الحرس الجمهوري”، التي تشكل أحد أكبر خزانات النظام البشرية، فلم يكن بد من قبول العرض، والسير في “المصالحة”، أملاً في الحفاظ على “حريتهم” التي نالوها بتضحية أبنائهم، في انتظار تبدل الموازين مستقبلاً..

وقد تبدلت الموازين بعد ثلاث سنوات فعلاً، خريف العام 2016، لكن على خلاف ما تأمله الثوار، كما تبدل مسؤول الملف أيضاً..

حل العميد “قيس الفروة” مسؤول الأمن في الحرس الجمهوري، محل العميد “سالم”. وأعطى العميد “قيس” أوامره بحصار المنطقة، وسكانها بشكلٍ كاملٍ، وعزّز قوات الجيش في محيطها، ووضع الثوار أمام ثلاثة خيارات..

مع تصاعد الاشتباكات الأخيرة، بدأ الأهالي حراكاً شعبياً، هو الأول من نوعه، حيث بدؤوا يتجمعون يومياً في ساحة “العمري”، الساحة الرئيسة، التي شهدت أضخم المظاهرات السلمية عام 2012.. كانوا جميعاً يدركون درجة الاستعصاء، والخطورة التي وصلت إليها الأمور، لذلك أرادوا اتخاذ مبادرة، لتجنيب مدينتهم الدمار، وحفظ أرواح السكان والمقاتلين، وحملت المبادرة عنوان: “لا للحرب.. نعم للسلم”.

شكل ذلك الحراك لحظةً مفصليةً في تاريخ ثورة المدينة؛ رغم أن مؤيدي النظام، وعملائه استغلوه لتشويه صورة المدينة وثوارها، وتحريف مشهد الرأي العام بدأ يتشكل، والذي اتجه لقبول خيارات مخالفة لرغبات الثوار والمقاتلين. ومع ذلك كان رأيي، أن الحراك أمرٌ إيجابيٌ ومطلوبٌ، وربما مثل منجزاً أيضاً، ما كان له أن يتحقق لولا الثورة، وتضحيات الثوار. قد أكون مخطئاً طبعاً، وسيخالفني الكثير من الأصدقاء بالتأكيد، ومع ذلك تبقى قناعتي أن الثورة، تهدف بالأساس لتمكين الناس من ممارسة حقهم في الحرية والتظاهر والتعبير عن الرأي، ودعمهم في تجاوز الحظر المفروض على الفضاء العام، والنشاطات العامة، ومساعدتهم على التخلص من القيود السياسية والاقتصادية والاجتماعية بمعانيها ومستوياتها المختلفة، والعمل من أجل إتاحة الخيارات، وخلق الفرص لتحديد اتجاهات ومسارات حياتهم، والأهم أن الثورة التي خرجنا من أجلها، هي ثورة حياةٍ وحريةٍ قبل أي شيءٍ آخرٍ، وليست ثورة موتٍ وحروبٍ خاسرةٍ، ولا ثورة “هدنٍ” و”تسوياتٍ”..

من المؤكد بالطبع أن حراكاً شعبياً مماثلاً، يستحيل تصوره في مناطق النظام، إذ أن سحقه والمشاركين به أمرٌ محسومٌ، وهذا بحد ذاته يمثل نصراً للثورة والمقاتلين، وهذا ما يمنح أيضاً أبعاداً ودلالات ومعانٍ حقيقية للمناطق المحررة، ومفهوم الثورة فيها.

في الوقت الذي كان فيه “أبو عدنان” و”أبو أحمد” و”عبيدة” وغيرهم من قادة المجموعات، يتقدمون الصفوف، ويوجهون مقاتليهم “أبو عاصم”، “حفص”، “أبو مأمون”، “أبو رامي”، “أبو السمر”، “محمد أبو خالد”، وغيرهم من المقاتلين اليافعين الذين تفتحت عيونهم على الثورة، ولم يكادوا يَخْبُروا من حيواتهم القليلة إلا السلاح، والحرب.. وفي الوقت الذي كان جميعهم يَصِلون الليل بالنهار، مرابطين، يصدون قوات الجيش، والميليشيات المتعددة، ويواجهون البراميل وصواريخ الفيل والمدافع والدبابات، وهم عازمون على القتال حتى الرصاصة الأخيرة، تخاذل مسلحون آخرون، فيما انشغل بعضهم الآخر بالسرقة..

وفي النهاية كانت للأهالي كلمتهم..

مهما استمرت الحرب، وطالت المعركة، وصمد المقاتلون، فالنتيجة محسومةٌ، والدروس المستخلصة من مدينة “داريا”، وما انتهى إليه حالها، باتت حاضرةً في الأذهان، بقوةٍ..

“العين ما بتقاوم المخرز”، قال بعض الأهالي الخائفين، “تجاوزات الثوار وأخطاؤهم هو اللي وصلنا لهون” ردد آخرون، “ما عادت معركتنا ضد النظام، صارت حرب ضد روسيا وإيران، يعني حرب عالمية!” أضاف فريقٌ ثالث..

في إحدى الأمسيات، استوقفنا أحد المدنيين ليسألنا عن قرارنا، ودار حوار.. قال صديقي المقاتل للرجل: إذا قبلنا عرض “الفروة”، وطلعنا على إدلب، بتأمنوا على حالكن من النظام؟ فأجاب الرجل: أنتو ولادنا وأخواتنا، ونحنا ما بدنا ياكن تطلعوا، بس إذا ضليتوا فيكن تمنعوا عنا البراميل؟..

لخص كلام الرجل الخيارات المظلمة القادمة..

أواخر صيف العام 2012، اقتحم النظام مدينة داريا، وارتكب فيها مجزرة مروعة، وبعدها بأيامٍ قليلةٍ، اقتحم مدينتا قدسيا، والهامة، وقتل فيهما عدداً لا نعلمه، حتى يومنا هذا..

نهاية العام 2012، مطلع العام 2013، بدأ النظام حملة عسكرية على مدينة داريا، واستمرت ما يقارب أربع سنواتٍ، سُجِلت باعتبارها المعركة الأطول والأشرس، والأهم حتى الآن..

فيما فاوض النظام ثوار قدسيا، والهامة، مطلع العام 2013، وفرض عليهم “هدنة” طويلة..

خريف العام 2016، اجتمع مقاتلو مدينة داريا، ومقاتلي مدينتي قدسيا والهامة على أرض محافظة إدلب “المحررة”..

وانتهت الحكاية..

Exit mobile version