“كوباني هي رواية يكتبها أهلي بالدم.. وليس سخاء أن أكتب عنها بالحبر!”
غسان ناصر – طلعنا عالحرية
انتهى مؤخراً، الروائي السوري الكردي “جان دوست” من الكتابة عن ذكرياته في الحارة البسيطة التي احتضنت أحلامه وعانقت مراهقته، في مدينته كوباني “عين العرب” في الريف الحلبي، المدينة التي هاجر إليها جدّه الشيخ صالح النقشبندي في أواخر الحكم الفرنسي، وعاث فيها الاستبداد فساداً وتسلطاً على مدار خمسة عقود، إلى أن دمرتها الحرب بعد أن اجتاحتها عصابات “داعش” الإرهابية في منتصف العام 2015.
رواية كتبها صاحب “دمٌ على المِئذنة” بحبر الروح، عن تفاصيل حياته في المكان الأول، وعن أمه وعائلته وبيته والجيران، وعن المدرسة والمسجد والحب الأول، فكانت “كوباني: الفاجعة والربع”، التي سيدفع بها للمطبعة قريباً، وهو يقول: “كوباني هي رواية يكتبها أهلي بالدم وليس سخاء أن أكتب عنها بالحبر. سأدون قصتها وأرويها للعالم بطريقتي”.
يُشار إلى أن جان دوست شاعر وقاص وروائي ومترجم سوري، كردي القومية، ولد عام 1965 في بلدة كوباني (عين العرب) بريف حلب. وهو يقيم في ألمانيا، ويعد من أبرز المثقفين الكرد المعاصرين، وله عدة مجموعات شعرية، وثمانية روايات بعضها صدر باللغة الكردية وبعضها بالعربية، فضلاً عن عدة ترجمات وبحوث. وقد حصل على جوائز هامة منها: “جائزة القصة الكردية القصيرة في سوريا” عام 1993، و”جائزة الشعر عن مهرجان الشعر الكردي في ألمانيا” عام 2012، و”جائزة الكتاب الشرقي” عن ترجمته لقصص كردية في كتاب بعنوان “رماد النجوم” 2013. كما حصل في آذار/ مارس 2013 على جائزة “دمشق للفكر والإبداع” التي أعلنتها مجلة “دمشق” الصادرة في لندن، عن الكتاب ذاته.
في هذا الحوار الذي أجرته مجلتنا مع جان دوست المزيد من التفاصيل حول عمله الروائي الجديد الذي سيصدر قريباً.
– بعد تسعة أشهر وتسعة أيام، انتهيت من كتابة رواية مدينتك المتألمة الصامدة المدمرة المغدورة المهجورة (كوباني/ عين العرب)، تقول: “رواية وجعي الخاص وذاكرتي التي لا تنام”. كيف تقدمها لقراء مجلتنا قبل صدورها؟
هي كما ذكرتها، وجع خاص وذاكرة لا تنام. لم يكن هناك بد من كتابتها. لو لم أكتبها لما كان أمامي سوى طريقين أحلاهما مر: إما الانتحار أو الجنون. لقد آلمني مصير مدينتي وشعبها وأدركت أنهم ضحية خداع كبير، وأن المدينة الآمنة المطمئنة صارت كبش فداء على مذبح مصالح وتشابكات سياسية وعسكرية معقدة.
-“كوباني” هي الرواية الثامنة في مشوارك الأدبيّ، ماذا يعني لك هذا العمل تحديداً على الصعيد الشخصي؟ ولماذا؟
يعني لي هذا العمل الخروج من دائرة التاريخ واستلهامه للالتفات إلى الواقع الحالي. الواقع الذي أناخ على روحي بثقله فألهاني عن التاريخ ودروسه وعبره. كنت مولعاً بالرواية التاريخية وكتبت ست روايات كلها تعود إلى فترات تاريخية سابقة، ربما أحدثها تعود لسنة 1925. ثم هي رواية عائلتي وجيراني وروايتي الشخصية أيضاً.
– وأنت تبني عالمك الروائي في “كوباني” إلى أي حد تسللت (الأنا) إلى النص بأشكال مختلفة، وهل حاولت أن تُقصي ذاتك، أم ملت هنا إلى السيرة الذاتية أو التخييل الذاتي؟
بالعكس، لم أحاول أن أقصي ذاتي أبداً، وتركت الأنا ترعى في مراعي هذه الرواية على سجيتها، لم أضع حواجز للأنا التي كانت محور جزء كبير من الرواية، الأنا المفجوعة بـ”نحن”، الأنا التي صدمها الواقع الأليم فحاولت رسم المكان وهندسته وترميمه من جديد روائياً على الأقل بعد الخراب العميم الذي حل بالمكان.
– لا ريب في وجود مصاعب وتحديات واجهتك أثناء كتابة هذا النص، فما هي؟
التحدي الأكبر كان إيقاظ وإحياء الذاكرة التي حاولت طائرات أوباما قتلها. فتح الخيال (الذي هو أصلُ الموجودات حسب قول الصوفية) أمامي مجالاً واسعاً لاستعادة الذاكرة. استطعت ترميم الذاكرة وصارت الأحداث تتعاقب في الظهور، حتى أدق التفاصيل طفت على السطح واستطعت إنجاز الجزء الأهم معتمداً على ذاكرتي فقط.
– الآن رواية “كوباني” باللغتين العربية والكردية الكرمانجية قيد الطبع، كما أنها تترجم إلى اللغتين الكردية السورانية والفارسية. لماذا هذا السعي لترجمة هذه الرواية تحديداً لأكثر من لغة؟
السبب هو رغبتي في نقل الوجع وتصوير حقيقة كوباني. العالم كله صفق للمقاومة البطولية التي أبداها الشباب والشابات. لكنهم نسوا الفاجعة التي حلّت بالناس الذين تشردوا في المخيمات وتدمرت بيوتهم.. إلى الآن لم يقدم أحد يد المساعدة لإعادة إعمار ما هدمته الحرب.. كان الاحتفاء بكوباني احتفاء إعلامياً للأسف، أدى إلى نشوة كبيرة غاب فيها العقل.. أريد أن أقول للعالم: هذه هي كوباني التي صفقتم لها طوال مئة وثلاثين يوماً.. انظروا إلى فاجعتها.
المنفى ليس وطنًا..
– أنت مقيمٌ في ألمانيا منذ 17 عاماً، ولكن يبدو، رغم الإقامة الطويلة، أن حضور سوريا/ كوباني، الهُناك، أقوى من الحضور الألماني. بماذا تفسر لنا الأمر؟
لم يصبح المنفى وطناً. وقد كتبت في رواية كوباني على لسان أبي: “لا تصبح الأرض وطنك ما لم تضم عظام أهلك”. لم أكتب رواية منفى. ولا أعلم إن كنت سأفعلها مستقبلاً أم لا. يبدو أن الوطن لم يغادرني. أنا غادرته مكرهاً ذات صيف وظننت أنني سأرى له بديلاً. الأمر أكبر من أن يتم تفسيره. إنه شيء غريزي. التعلق بالأوطان لا علاقة له بالوعي وتطوره.
– كيف كتبت عن المكان وآلام الناس وأوجاعهم وأنت بعيد هناك في المنفى الألماني؟
ليس المكان غريباً عني. إنه عشّي الذي عبثت به الأفاعي. أعرف المكان ركناً ركناً. هناك ولدت وهناك نشأت، وهناك أحببت، وهناك كتبت قصائدي الأولى، وهناك دفنت أبي وأمي وأخي وأهلي. ما زال المكان بناسه وتفاصيله ساكناً في روحي. عرفت أوجاع الناس من خلال التواصل معهم. تواصلت مع النازحين وهم يحملون صررهم على أكتافهم، تواصلت مع النازحات وهنّ يحملنّ أطفالهنّ في أحضانهنّ ويهربن من طوفان “داعش” الأسود. كأنني كنت حاضراً معهم خطوة بخطوة. لقد كانوا جيراني وأفراد عائلتي ومعارفي. كانوا مرآتي التي عكست المحنة بأدق تفاصيلها.
– أمضيت 35 سنة من عمرك في كوباني، فإلى أي مدى ساهمت هذه المرحلة من الطفولة والشباب في قرية صغيرة نائية بريف حلب في تشكيل وعيك؟
باعتبار كوباني بلدة كردية أولاً، وحدودية ثانياً، فقد خلقت لديَ نوعاً من القلق المشوب بالخوف. بالتالي تطور لدي الإحساس بالأنا المختلفة المتميزة عن الآخر المحيط بي. الأنا الكردية التائهة المنشطرة بسكة قطار إلى (أنا) شمالية تتبع تركيا و(أنا) جنوبية تتبع سوريا. هذا التشظي في الأنا دفعني إلى البحث عن هويتي الحقيقية التي كادت تُطمس بين الهويتين الغالبتين (العربية والتركية).
– عشت بين ثقافتين؛ العربية التي تكتب بها، والكردية التي تكتب وتنتمي إليها، فإلى أي مدى أثر ذلك في إثراء تجربتك الأدبية؟
أنا محظوظ جداً في هذا المجال. العربية التي ترافق تعلمي إياها بالعنف المدرسي والخوف والصفعات، أصبحت رفيقة دربي وعشيقتي. فتحت اللغة العربية أمامي دروباً حرة إلى كنوز ثقافية هائلة بالغة القيمة والثراء. لا يمكن الحديث عن الغنى الذي أصبحت عليه بعد تعلم اللغة العربية. كثير من أقراني لم يميز بين العربية كثقافة والعربية كانتماء سلطوي. لم أنظر إلى هوية المستبد ولا قوميته ولا لغته. اللغة كائن مستقل بريء من أفعال السلطة أينما كانت.
الحرب أسقطت الأقنعة عن وجوهنا البشعة..
– إلى أي مدى تمكنت من الخروج من “الانتماء الدموي” و”الانتماء للمكان” واستطعت أن تكون كاتباً متحرراً من كل هذه الانتماءات ومنفتحاً على العالم؟
التحرر من الانتماء غير ممكن. فأنا مثلاً لا أستطيع أن أنكر قوميتي الكردية ولا كوني أحد أبناء كوباني ولا كوني سورياً. هذه لم تكن خياراتي بل جاءتني بالمصادفة. لكنني أستطيع الادعاء أنني أنتمي إلى الشاعرين “أحمد خاني” و”هيمن” لكنني لا أزعم انتمائي إلى زعيم هذا الحزب الكردي أو ذاك. وانتمائي إلى “خاني” هو بنفس درجة انتمائي إلى “المعري” و”ابن رشد” مثلاً. أما الانفتاح على العالم فإن من لا يفتح نوافذ بيته لتهويته، فإنه سيتعفن. الانفتاح قدرنا، والتسامح ضرورة للعيش مع الآخر مهما اختلفنا معه، وهو صمام الأمان لتحقيق السلام.
– هل كان لقوميتك الكردية تأثير على مواقفك من مجريات الأوضاع بالبلد؟
ما يجري بالبلد منذ ست سنوات شيء أصبح بالنسبة لي مقززاً. لقد استطاعت الحرب أن تظهر دواخلنا القذرة العفنة، استطاعت أن ترمي كل الأقنعة عن وجوهنا البشعة التي كنا نخفيها لسنوات وسنوات. ما جرى كان في البداية حقاً طبيعياً يمارسه شعب يطالب بالتغيير، بالحرية والكرامة. لكن الآخرين جاؤوا ليدخلوا على الخط ويشوهوا وجه أنصع حركة شعبية. للأسف انحدرنا كلنّا، عرباً وكرداً، سلطة ومعارضة، إلى أسفل درك في الوحشية.
كرديتي فرضت عليّ انتظار تحقيق الحلم العام للشعب السوري؛ وهو نظام حكم ديمقراطي تعددي. كنت أنتظر أن يتحرر الشعب السوري، وأتحرر أنا ككردي وأحصل على حقوقي القومية من خلال الاعتراف بي ككيانية خاصة بثقافة مختلفة، جميلة ومكملة لمجمل الثقافات السورية.
– إلى أيّ مدى يمكن للراوي أن يتجاوز سيول الدم، ويقترح إبداعه في مواجهة المستبد؟
لا يمكن أن نحصر هذا الفن العظيم في إطار مواجهة المستبد. أقصد أن تعميم الأمر خاطئ. لكن في بلد يعاني من الاستبداد المزمن ويعاني أهله حرباً قذرة وأعمالاً وحشيةً وضحايا بالملايين، لا يمكن للروائي أن ينام على سرير من ورد، وسينحاز إلى الواقع ويتردد صدى سيول الدم في نتاجه. وهذا بالضبط ما لاحظناه في الرواية السورية في زمن الحرب. الروائي السوري الآن مسكون بهاجس الحرب وتداعياتها على الناس ولا يمكنه تجاوز ذلك.
– برأيك هل الثورة السورية كانت نِعمة أم نقمة على خريطة الأدب السوري؟ وكيف تفسر ذلك؟ وما هو تقييمك لواقع الرواية السورية في اللحظة الراهنة؟
الثورة السورية بما حملته من أفكار وحلم بالتغيير كانت زلزالاً هزّ المنطقة كلها. إنها الثورة المستحيلة كما يصفها البعض بحق. وهي لم تكن لا نعمة ولا نقمة على الأدب السوري. لكنها فتحت أمام جيل الرواية الحالي آفاقاً جدية للتعبير لم تكن متوفرة قبل الثورة. لا يستطيع الأديب السوري أن ينأى بنفسه عن رياح هذه الثورة العتيدة. لكن للأسف لم تتضح الأمور بعد.. الثورة لم تنته بعد.. أقصد أنها لم تصل إلى أهدافها في الحرية بعد. لذلك كل رواية تتناول هذه الثورة ستكون ناقصة غير مكتملة الملامح.. لكن هناك روائيون واكبوا الثورة وكتبوا عنها، ومنهم الصديق خالد خليفة في روايته “الموت عمل شاق”، وأيضاً الصديقة الروائية مها حسن في روايتيها “طبول الحب” و”مترو حلب”، والروائية روزا ياسين حسن “في الذين مسّهم السحر”، وكذلك جان دوست في “دم على المئذنة” وغير هذه الأسماء.
الرواية السورية الحالية مسكونة بهاجس العنف والوحشية والنزوح وكل تبعات هذه الحرب التي أصبحت حرباً عبثية تطحن الأبرياء. لا يمكن للأسف للرواية السورية الفكاك من قيد الثورة أو بالأحرى العاصفة التي تعصف بالبلاد منذ ست سنوات.
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج