Site icon مجلة طلعنا عالحرية

الموقف من الغرب.. بين الإسلاميّين والعلمانيّين / د. عماد العبار

44

تغلب الثنائيّات الحديّة على مجمل المشهد الثقافي في عالمنا العربي والإسلامي؛ فنادراً ما تجد موقفاً معتدلاً تجاه قضيّة من القضايا، لا سيّما القضايا المصيريّة الحسّاسة التي تتداخل مع الهويّة الثقافيّة لأحد الأطراف. يجسّد الموقف من حضارة الغرب مثالاً نموذجياً يشرح حالة التنافرات الفكرية التي نحن بصددها. ولا غرابة أن يحتل الغرب حيّزاً كبيراً في المناكفات الفكرية المعاصرة كونه الفاعل الحضاري المنتج والمؤثّر في عالم اليوم، ولكوننا شعوباً مستهلِكة مصابة بالعجز الحضاري.

لا شكّ وأنّ الغرب لا يشكّل كتلة واحدة، فالمقصود بالحديث عن الغرب سياسته العامّة الخارجيّة تحديداً تجاه الشعوب الأضعف، فالمجتمعات الأوروبيّة محصّنة من داخلها لكون النهضة الأوروبية قامت على جهود فلاسفة ومفكّرين وحقوقيّين عملوا على تعزيز قيم الحريّة والمساواة ضمن المجتمع الواحد. الأمر الذي ساهم مع الوقت في بناء نهضة أوروبيّة حقيقيّة. ولكن، على الرغم من أنّ هذه المجتمعات التي قد تبدو اليوم وكأنّها مثالية على مستوى الحقوق والمساواة، قد تتزعزع صورتها إن أردنا أن نرى المشهد بصورة أشمل، فهذه المجتمعات لم يمضِ على استقرارها الفعليّ أكثر من سبعين عاماً بعد حربين عالميّتين قضى فيهما ما يزيد عن 70 مليون إنسان!

المواقف المضادّة للحضارة الغربية مواقف متشنّجة بطبيعتها، تصدر غالبيّتها عن إسلاميين لا يتمتّعون بالقدر الكافي من الانفتاح على العصر، ذواتهم مهزوزة متشنّجة من الآخر، ولا يستطيعون الحفاظ على مساحة مناسبة للعيش المشترك، مع توضيح المسؤوليّات والمطالبة بالحقوق دون ابتكار أصناف مختلفة من العداء، أو دون تجنّب الأحكام الخاطئة التي تشوّش على القضايا العادلة.. أصحاب هذه المواقف لا يقدّمون أنفسهم كأنصار لحقوق الإنسان والمساواة بين البشر، ولا يسوّقون لأنفسهم كدعاة للديمقراطيّة والحريّات. هؤلاء يقدمون أنفسهم للعالم بدون مساحيق تجميل، وإن كان لديهم ما يفرض احترامه فهي هذه المصداقيّة والانسجام مع الذات، وإن كان انسجاماً مع فكر التطرّف والإلغاء.. فالانسجام والصراحة أصبحا عملتين نادرتين في يومنا هذا!

في الجانب المقابل، نجد موقفاً منصهراً بحضارة الغرب، ويصدر عن تيارات علمانيّة متغربنة بالمطلق من حيث الانتماء الثقافي والجذور الفكريّة. وهي تظهر رغبة في تحديث المجتمعات الإسلاميّة، ولكنّها تسعى في العمق إلى تغيير هويّـتها بحيث تصبح نسخة عن المجتمع الحلم. تبطن هذه التيارات مشاعر عدائيّة للمجتمعات ذات التكوين الإسلامي، معتنقة بذلك أكثر الأفكار العداونية تطرّفاً في الغرب تجاه الإسلام وثقافته..

يتماهى مع التيار السابق تيّار إسلامي معتدل، يعيب على بقيّة الإسلاميين عادة ضيق الأفق ومحدوديّة التفكير، والانغلاق على التجربة التاريخيّة للإسلام دون الانفتاح على تجارب الآخرين وقراءتها باعتبارها جزءاً من آيات الآفاق والأنفس..

لا يخفي التيار العلماني انحيازه المطلق لحضارة الغرب، وهو لن يرى لها عيوباً مهما كانت الحقائق دامغة، فالآلية العقلية التي يحاكم بها هذا التيّار الأمور تخضع من جهة إلى الهيمنة الغربيّة التي فعلت بإعلامها الكثير على مستوى الشعوب المغلوبة، وتنطلق من جهة ثانية من تجربة شخصيّة (أو جمعيّة) سيّئة في مجتمعات تعاني من أزمات وعقد مركّبة، حيث تأخذ بعض العقول منحى الحقد على البيئة الاجتماعية وشيطنتها والعمل على قلبها رأساً على عقب، عوضاً عن العمل على تحقيق نهضة حقيقيّة..

وبالمقابل، يوحي تيّار “الاعتدال” الإسلامي إلى خصومه بامتلاكه الحقيقة المطلقة في تقييم الواقع، لكونه يسوّق نفسه، دوناً عن غيره من التيارّات الإسلامية، قارئاً لآيات الآفاق والأنفس، ومتتبّعاً لمجريات التاريخ بحسب التوجيه القرآني. لكن، يُظهر هذا التيّار اجتزاءاً غريباً للحقيقة التاريخية والواقعية، وانتقائيّة في قراءة النص القرآني أيضاً.

لا نأتي بجديد إن قلنا إنّ الرفاهيّة والتقدّم الأوروبيين قاما بنسبة كبيرة على استعباد الشعوب واستغلال ثرواتها.. هذا ما يعترف به بعض أصحاب الفكر الحرّ في الغرب بطبيعة الحال، وهذا ليس من أحاديث التاريخ أو من أساطير الأوّلين التي مضت ويمكن طيّها بحيث يمكننا القول بأنّ تلك أمّة قد خلت، بل هو حالة معاصرة مستمرّة لا يمكن فصلها عن طبيعة الحضارة الماديّة التي تعمل على استغلال كلّ شيء حتّى آخر رمق. ولكن، على ما يبدو، فإن الآلية الفكرية عند هذا التيّار تقوم بشكل كبير على تهميش هذا الجانب لصالح التركيز على عيوبنا الذاتيّة، عملاً بالتوجيه الإلهي  (حتّى يغيّروا ما بأنفسهم). وهذه الانتقائيّة في اختيار التوجيهات الإلهيّة تعكس خللاً كبيراً في هذا التفكير. ففي المجتمع المكّي، وحين كان تعداد الجماعة المسلمة لا يزيد كثيراً عن أصابع اليد الواحدة، كانت هذه الجماعة تواجه مجتمع الاستكبار بدون مهادنة، وكان الخطاب القرآني يوصّف حالة المترفين والمسرفين والطغاة بأوضح العبارات، في الوقت الذي يدعو المسلمين إلى الانشغال بالعمل على بناء الذات.. لا يستوي الادّعاء بامتلاك القراءة السليمة للتاريخ مع تجاهل على درجة عالية من الأهميّة: فالتاريخ الأوروبي لا يقتصر على تفوّق حضاري، وإنتاج صناعي، وحريّات عامّة، واتحاد أوروبي، وإلغاء العبوديّة.. إلى آخر الإنجازات التي لا يستطيع أحد نكرانها. فكل ما سبق يمثّل نصف حقيقة، بينما يتلخّص نصفها الآخر في أنّ هذا التفوّق لم يكن ليصبح على ما هو عليه لولا أنّ هذه الحضارة قامت (وما تزال) على الاستيطان والاستعمار، وعلى سرقة الشعوب وثرواتها، واستهلاك ظاهر الأرض وباطنها، وعلى التأسيس لعبوديّة جديدة تفوق العبودية القديمة وحشيّة ومهانة، ثمّ جعلت الإعلان العالمي لحقوق الإنسان إعلاناً خاصّاً بالإنسان الأوروبي وبرعايا الدول الغربية داخل حدودها..

على مستوى الفهم القرآني، يُظهر هذا التيّار انتقائية تشابه انتقائيّته في قراءة التاريخ، وهو يوحي لخصومه، من جديد، امتلاكه للحقيقة المطلقة في فهمه للقرآن. على الرغم من أنّه ينتقي منه (فقط) ما ينسجم مع أفكار الغرب، معتبراً الآيات المنتقاة (والتي تتمحور حول حريّة المعتقد والانشغال بإصلاح الذات) آياتٍ تمثّل، دوناً عن غيرها، عصب المنهج القرآني.. يتحاشى تيّار الاعتدال التطرّق إلى نصوص كثيرة جداً تتعارض مع الجوهر الماديّ لهذه الحضارة، وتوصّف بعبارات صارمة الكثير من “الفواحش” التي شرعنتها حضارة الغرب، ولكنّه، مع ذلك، يريد أن يقنع خصومه (من المتطرّفين) بأنّ فهمه للخطاب القرآني هو الفهم الأقرب للصواب! مع أنّ مجاله الفكريّ لا يتعدّى الـ 50 بالمئة من الفضاء القرآنيّ! وهو بذلك لا يختلف عن خصومه في الاجتزاء، والانتقاء، وفي سوء الفهم والتقدير في كثير من الأحيان..

يمثّل فهم دور الغرب جزءاً هامّاً من فهم الواقع وفهم دورنا فيه. يريد بعضهم أن يقول لنا، بشكل أو بآخر، بأنّ دور هذه الأمّة قد انتهى.. هكذا وبكل بساطة! وإنّ أقصى ما يمكنها فعله هو اللحاق الأعمى بالغرب.. يسعى غالبيّة العلمانيّين، تحت ستار التحديث والتجديد، للترويج لفكرة ذهاب العصر القرآني إلى غير رجعة لصالح صعود عصر ماديّ يتم تسويقه على أنّه إنسانيّ. ويتماهى معهم تيار الاعتدال في انتقاء النصوص الموافقة للمدّ الجديد، عاملاً على إخفاء بقيّة النصوص التي توضّح الموقف القرآني من توحّش الشهوات والماديّة..

ويبقى نجاة الأمّة مرهوناً بظهور جيل قادر على فهم عوامل تطوّر الغرب والاستفادة منه.. جيل لا يخجل من إظهار هويّته الثقافيّة وذاته الحضاريّة.. ويؤمن بأنّ التبعيّة ليست قدراً محتوماً على هذه الأمّة..

Exit mobile version