مجلة طلعنا عالحرية

القتل من الحاجة إلى الشهوة

بشرى البشوات

منذ أن أخذ الإنسان بالتحول عن كونه صائداً ومفترساً فقد كفّ عن اصطياد وافتراس الأنواع الأخرى من الحيوانات، بدافع الغذاء والأمن، وأصبح صائداً ومفترساً للإنسان والحيوان معاً، على الرغم من كل الادعاءات التي تحملها التشريعات الحديثة من حماية حقوق الإنسان والحيوان معاً، وهي لاشك تعتبر قفزة هائلة نحو المَدنية والأخلاق، وتحديث وعقلنة وأنسنة وعي وسلوك البشر. لكن من المؤسف حقاً أنّ هذه التشريعات بقيت في إطار نخبوي لمنظمات محلّية ودولية تفتقر لأنياب تحدّ من غول التوحش، لنكتشف أنّ الإنسان في الحقيقة لم يتحوّل عن الصائد والمفترس الذي هو، بل ضاعف مئات المرات من طرائق الصيد والافتراس، وعقّد من آلياته وأساليبه على هذا الصعيد، وأحدث نقلة ليس في مستوى الكم فقط، لا بل حتى على مستوى النوع، فضلاً عن النقلة النوعية المحدثة على مستوى الدافع.

وعلى الرغم من الثقافة الإنسانوية التي شملت العطف على الحيوان، ويفترض من باب أولى على الإنسان، إلا أننا نلاحظ، وفي سياق الكارثة الشرق أوسطية، إن كان في سوريا أو العراق أو… أنها لم تتحول إلى قوة ضغط شعبي من أجل حمل الدول القوية على التدخل لوقف كارثة صيد وافتراس الإنسان والحيوان معاً.

يغضب الإنسان الغربي ويحزن ويقيم العزاء من أجل كلبه وهذا حق، لكن لماذا لا يغضب ويحزن ويقيم العزاء على الكلب والإنسان معاً في الشرق؟ إنها الإنسانوية المفتقرة لبعدها الكوني الذي يتجلى فيه الإيمان بوحدة المصير الإنساني، ووحدة تاريخ الإنسان كذلك.

يحدّثنا إحصاء الكمّ على مستوى الصيد والافتراس عن أرقام مرعبة حقاً تقول إنّ الإنسان أصبح قاتلاً أكثر احترافية في العصر الحديث؛ فيمكن القول إن ما قتلته آلات التقدم التقني البشري في الحربين العالميتين وما بعدهما، فضلاً عن طريق القتل بالمجاعات والكوارث الطبيعية التي يلاحظ فيها وجود الإنسان القاتل أيضاً (من مُسببّات هذه الكوارث السباق الصناعي بين الدول التي تسمي نفسها متقدمة، وما ينعكس عنه من اختلال في التركيب الكوني للكوكب، إذا ما أخذنا بالاعتبار ما يلفّ الكوكب من إشعاعات نووية وانبعاث غازات وأبخرة عمقت جرح الأوزون وأحدثت خللاً في مزاج الطبيعة، قاد بدوره إلى احتباس حراري وتصحر وذوبان قطبي وجفاف.. وفي المحصلة مات الإنسان والحيوان معاً ومازال الموت سارياً)، ما تقوله الإحصاءات أنّ عدد الضحايا في الفترة الممتدة من اكتشاف الأمريكيتين وغزوهما من قبل البيض، مروراً بالحربين العالميتين الأولى والثانية إلى الآن، يعني بحدود خمسة قرون، يعادل ضحايا آلاف السنين، تلك الآلاف التي نعدها جزءاً من تاريخنا المتوحّش. هذا مع أننا نعتبر أنّ الإنسان قد غدا حديثاً ومدنياً ومتقدماً وعقلانياً وأخلاقياً وإنسانياً.. وغادر مرة واحدة وإلى الأبد تلك الغابة.

رافقت التحوّلات الكمية للموت في تاريخ الإنسان، تحوّلات أخرى على مستوى الدافع أيضاً؛ فقديماً كان الإنسان يقتل إما بسبب الجوع وإما بسبب الأمن دفاعاً عن النفس، كمعظم الحيوانات، ولم يكن يحتاج لتبرير هذا الفعل بصناعة إيديولوجية تزيف الوعي وتقلب الحقائق وتهدم الحياة. لكن الإنسان حوّل دافع القتل من أجل الجوع إلى القتل من أجل الثروات والمصالح الاستراتيجية والسيطرة على الموارد والأسواق، وأخذ الصراع يتلون بألوان عدة، ويتخذ أشكالاً متجددة. وأخذنا نشهد صنوفاً من الحرب منها الإلكتروني ومنها الثقافي ومنها النظامي ومنها الفضائي ومنها الأرضي ومنها النووي وسواها.

كذلك تحوّل دافع القتل من أجل البقاء أو الأمن إلى دافع من أجل الهيمنة والسيطرة والإخضاع، وأخذت ترسم مسارات القتل عبر الاستراتيجيات، ووفقاً لبرامج مدروسة في أهم وأكبر المراكز البحثية التخصصية، على يد التكنوقراط المختصين. وصار للقتل آلة إعلامية جبارة تضخ فيها رساميل تكفي لإنقاذ ملايين البشر من الجوع والعراء. وصار هناك منظومات إيديولوجية تبرر القتل بمفاهيم العقل وتشريعاته، و صار هناك كمّ دعائي يكفي لغسل وعي أجيال وشعوب كنا نعتقد أنها لن تقف مكتوفة الأيدي في مغرب الأرض إذا تعرض من في مشرقها للقتل والتهجير والحصار.

صار الإنسان كقيمة سلعة بين سلع، لكنها سلعة من نوع بشري، ذكية ومشتهية ومتطلبة وشرهة، ينبغي لأرباب الصناعة والتسويق أن يُعدّوا الدراسات والخطط والبحوث النفسية والذهنية من أجل حشوها بسلعة تلو الأخرى، من أجل أن تتركز الثروة ورأس المال في أيدي الصفوة المختارة من بني البشر، هي الصفوة نفسها من تدير لعبة القتل في بلادنا من وراء الستار، ثم مزقت الستار وأخذت تديرها على مرأى ومسمع العالم.

فهل مازال بالإمكان الحديث عن الأخلاق والإنسانية والحق والخير والجمال في هذه اللحظة من تاريخ الإنسان؟ وهل مازال بالإمكان اعتبار الإنسان قد كفّ -في سياق الحداثة- عن كونه صائداً ومفترساً ليغدو قاتلاً محترفاً؟!

 

Exit mobile version