مجلة طلعنا عالحرية

السوريون هويات مكسورة

إباء منذر

“حيث تكون الحريّة يكون الوطن”, هذا ما اعتقده “فرانكلين” يوماً، لكن حتى الآن وبعد عامين من إقامتي كلاجئة في فرنسا، أجد نفسي وأبنائي خارج الزمان والمكان لا وطن لي في بلاد الحريّات هذه، وما زالت روحي معلقة هناك، على الضفة الأخرى من المتوسط، حيث تختنق الأصوات، في ما تبقى من وطني.

لم أبلغ سن الفطام بعد، اعتقدت يوماً أنني أملك من الديناميكية ما يكفيني لأتحرّر من أي قيد بما في ذلك قيود الوطن، كانت تجذبني أفكار ما بعد الحداثة، وكنت أرغب بتحطيم مفهوم الوطن، كنت اعتقد أنّ الإنسان القوي هو من يعتبر كل بلد وطناً له، والأكثر قوة من يتعالى إلى حدود الإنسانية، ويكون عابراً للأوطان، لكن هل من وجود لهذا الانسان المُتخيّل المُتحلّل من كل ارتباط؟!.

*- خلاص فردي أم خراب؟

نحن اللاجئون الباحثون عن “ملاذنا الفردي” في بلادٍ ربما في جعبتها لنا الكثير الذي لا نريد منه سوى وطن، مغادرون وحقائبنا خاوية إلاّ من رائحة من نحب، هاربون من حلمنا ببلد نحيا فيه بقليلٍ من الكرامة، ما لبث حلمنا أن تحول لفيلم رعبٍ طويل لا ينتهي، أبطاله أولئك القابعون تحت حصار الجوع وقصف الحمم السماوية والأرضية من طاغيةٍ لا يرحم، أمّا نحن بتنا مشاهدون دماؤنا ثقيلة كغصة الحلق، أولئك فقط المقتولون في بلادي وعلى الهواء مباشرةً دماؤهم خفيفة تطير بسرعةٍ إلى السماء.

كنت أعتقد أنّ سقوط الطاغية قريب، قاومت الاعتياد على خبز الباكيت الفرنسي، ولم أرتب بيت المساعدة حتى الآن كما يجب، مازلت أعتقد أنني في زيارةٍ لعائلةٍ أخرى تركت لنا بيتها وتنتظر خروجنا منه.

في الحروب تمشي المفاهيم على حد السيف، تضيق الاحتمالات والاختيار يصبح بين مع وضد، بين أبيض وأسود، بين وطني وعميل، في المحرقة السورية، من ينادون بالدفاع عن “السيادة الوطنية” والحفاظ على “الوطن”، تضعهم مفاهيمهم في نهاية التحليل في موقع الاتهام  بخدمة النظام، والدفاع عنه، وفي المقابل من ينادون ويقبلون الاستعانة بـ”الشيطان” لإسقاط النظام يتهمون بالعمالة واللا وطنية.

*- الهويات القاتلة

 بين هذا وذاك، بين العميل والوطني، هناك  أهل وشوارع ورائحة ياسمين، ذكريات جيران، وملامح أماكن ومدن تحاصرني، وجوه مكدرة، وعيون خائفة، أطفال أعرفهم وأحفظ ضحكاتهم، مطارح  عشت فيها ما يكفي لتكون جزء من كياني، هناك لغة أرقص على إيقاع كسرتها وضمتها، في أي تصنيف تجد مكانها كل هذه الألفة المفتقدة في صقيع الغرب، وأي جواب سأحمل لأولادي عن بلاد تحمل كل هذا العشق والقتل على حد سواء، هل بات الوطن ندبة في القلب لا شفاء منها أبداً؟.

وعلى ذكر الهوية والوطن، عمد رجال الأمن في بداية الثورة إلى اعتقال كل شخص يحمل هوية مكسورة، لاعتقادهم أنه فعل ذلك استجابةً لنداء “الشيخ العرعور” في ذلك الوقت بكسر الهويات كنوع من أنواع الاحتجاج، (جميل) لسوء حظه كان أحد هؤلاء، ما جعله عرضة لاحتمال الاعتقال على أحد الحواجز المنتشرة على طول البلاد وعرضها، ولم يسلم من حقد رجال الأمن حتى أثبت مسيحيته ورفع صليبه، واعتدّ بهويته الوطنية، لعلنا اليوم جميعاً نحمل هوياتٍ مكسورة ومشوهة ولا نملك لها بدائل.

قبل ثلاثة أعوام خرجت من سوريا لم أدرك حينها ورغم كل الخراب أنني أسلك طريق اللاعودة، لم أملأ صدري كفايةً من هواء، يكفيني مؤونةً لهذا الاغتراب الخانق، غادرت وفي رحمي روح ستخرج إلى الحياة في اللا بلاد.

طفلي أصبح واحداً من آلاف الولادات التي سبّبت قلقاً للعالم بوصفه ولداً بلا هوية، ولد في دول الجوار دون أوراقٍ رسمية باستثناء شهادة ميلاده الصادرة عن المشفى وما ستمحنه إياه مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين من وثيقة سفرٍ خاصة باللاجئين، وصلت إلى فرنسا ووضعت طفلتي الثانية، أيضاً لم أتمكن امن لحصول على هوية ووطن لها. الآن أصبحنا الكائن “المثالي” التي تنادي به مفاهيم ما بعد الحداثة، عائلة مؤلفة من أشخاص بلا وطن وبلا هويات، لعلنا نتخلص من حيث لا ندري من “الهويات القاتلة”، التي تحدث عنها أمين معلوف، أو أنّ “اللا هويات” و”اللا أوطان” هي ما سيقتلنا يوماً ما..!

*- وطن بمساحة جسد

قرّرت أن أخبر ابني بالحقيقة مرةً واحدة دون مواربات فلسفية، لم يعد لنا وطن. وإن كان لا بد من وطن فقد بات “مساحةً صغيرة جداً حدودها كتفين” هذه الحدود التي تحدّث عنها يوماً غسان كنفاني. أو ربما نتوسع قليلاً وفق الأفكار الوجودية لنجعل من المساحة التي تشغلها أجسادنا وطناً نحمله في اللا بلاد، فهل يكفي أن تحترم هذه البلاد آدميتنا ليصبح لدينا وطن بديل، هل يكفي أن تعطينا حقوقنا كاملة لننسى أوطاننا ونقطع حبل السرة..!

لعلّ كل ما سبق من كلامٍ لن يعني لأبنائي شيئاً، فهم الأقدر على تجاوز الحالة (الوطنية) إن صحّ التعبير، والتي إن تشكلت في ذواتهم مصدرها ما ننقله لهم من مخزوننا لا ممّا عايشوه فعلاً، فسوريا لم تكن لهم يوماً مسقط رأس، سيرسمون ملامحها فقط من قصصنا وذكرياتنا، ومن بداهة الحياة أن يجدون في هذه البلاد وطن بديل.

Exit mobile version